TLB News (طلبة نيوز للإعلام الحر)
الأكاديمي المرموق الدكتور مصطفى العدوان يكتب التعليم العالي وإرادة التغيير
30/06/2015 - 9:15am

طلبة نيوز-   د. مصطفى عبد الكريم العدوان 

أمين عام وزارة التعليم العالي السابق

  مستشار مجلس التعليم العالي\ البحرين

تمهيد

تؤكد تقارير البنك الدولي المتتالية أن نظام التعليم السائد في الوطن العربي لم يعد قادرا على تقديم خريجين بمستوى طموح سوق العمل المحلي قبل الدولي، مع ما يرافق ذلك من تزايد واضح في أعداد المتعطلين وزيادة مضطردة في نسب الملتحقين بالجامعات. وعلى الرغم من تشاؤمية هذا الاستنتاج الا أنه يدق ناقوس خطر علينا جميعا الانتباه له خاصة وأن مختلف المراجع المحلية تؤكد ما ذهبت اليه تلك التقارير.

يقابل ذلك أن الدول جميعها لم يعد بمقدورها الانكفاء على ذاتها فهي مكرهة على التنافس مع غيرها من الدول في مختلف المجالات. أضف الى ذلك أن ازدياد معدلات البطالة وتزايد السكان مع ما يصاحبه من زيادة في أعداد الملتحقين بالجامعات، وبالتالي ازدياد اعداد الخريجين (اقرأ المتعطلين) دونما فرص عمل مناسبة، يشكل عامل قلق للقائمين على التعليم العالي ومخرجاته قبل غيرهم من أصحاب الشأن. فالتحدي الكبير الذي أمام الجميع اليوم هو طوفان الأعداد الكبيرة من الطلبة التي تتوجه للجامعات نتيجة أفكار اجتماعية وموروثات ثقافية مع ما ينتج عنه من ارتفاع أعداد الخريجين المتعطلين.

وإذا ما نظرنا الى النصف الثاني من الكأس فإننا نقابل بتزايد فرص العمل في قطاعات الإنتاج المختلفة، لكنها تحتاج إلى توافر كوادر بشرية مدربة ومؤهلة لولوج هذا السوق، والتي غالبا ما يشغلها غير أبنائها. أي أن التعليم العالي في بلدنا يفقد ميزة المواءمة بين التخصصات الجامعية التي يقدمها وبين حاجات سوق العمل الفعلية.

والسؤال الذي يداهمنا دوما هو كيف لنا أن نتغافل عن هذه الحقيقة المرة ونحن لا تستطيع توفير أكثر من 10% من الخريجين الذين يمكن للسوق المحلي الاستفادة منهم والانتفاع بهم سنويا؟ وكيف لنا جميعا أن نبقى مغمضي العيون ونحن نعلم أن سبب المشاكل القائمة حاليا في مختلف الدول هو الفقر والبطالة؟ وأن هناك تزايدا ملحوظا في نسب الجريمة بين المتعطلين، بل وأن الطامحين في سلب استقرار بلدان عربية عدة قد استغلوا البطالة والفقر في صفوف الشباب وقفزوا للسلطة أو يتحفزون لها مستخدمين ذلك سببا. ألا يستدعي ذلك منا جميعا الخروج على المألوف واستحضار إرادة فاعلة لتغيير هذا الواقع المرير كي لا يسلب الطامعون استقرارنا نحن؟

فما العمل إذن؟

بداية أرجو أن أؤكد أني لست من المتشائمين الذين يدعون أن التعليم في بلدنا يحتضر أو أنه في غرفة الإنعاش، فلدينا بنية تعليمية وارث نحسد عليهما، ولدينا قامات تربوية يمكن الركون إليها في إصلاح هذا الخلل، لكن علينا أن نعترف أولا أن التعليم في بلدنا يحتاج إلى مراجعة جادة، كما يحتاج إلى إرادة جادة في التغيير. والاعتراف بالمشكلة نصف الحل.

إن استشراف المستقبل واقتراح الحلول والاجراءات الكفيلة بتغيير هذا الواقع تقع ضمن أولى أولوياتنا. فالتعليم محور أساس يبرز دوما في كافة كتب التكليف السامي للتأكيد على ضرورة انتهاج سياسات هادفة تتوافق والمصلحة الوطنية وحاجات سوق العمل ومواجهة مشكلة البطالة المتفاقمة وخلق فرص توظيف دافعة للاقتصاد الوطني. والتعليم باختصار هو "بترول الأردن"، وبصفته تلك يحتاج دوما لمزيد من الرعاية والاهتمام.

إن جعل التعليم محور أساس في كتب التكليف السامي مؤشر حقيقي عن توجهات الدولة الأردنية وأمانيها المستقبلية، لكنه في الوقت نفسه يشي بشيء من عدم الرضا الذي يشعر به جلالته عن واقع التعليم ودوره في عملية التنمية والإصلاح، وفي خلق بيئة تقدمية في كافة المجالات الاقتصادية والسياسية والتعليمة، كما أنها دعوة مباشرة للبدء في المراجعة الجادة. فالمجتمع الأردني يتطلع إلى الدخول كل عام كمجتمع قوي قادر على الاسهام علمياً وتقنياً واقتصادياً في رخائه وتقدمه، ويعلم تماما أن النظام التعليمي الجيد يعد أحد أهم السبل في تحقيق هذا الهدف. وأن قطاع التعليم العالي تحديدا يؤدي دوراً مميزاً في عملية التنمية بمفهومها الشامل، ويعلم تماما أن التعليم العالي يقع عليه دور أساس في الارتقاء بمستوى حياة المواطن الاقتصادية، وبالتالي وجب علينا أن نعيد النظر فيما نقدمه من خدمات تعليمية لمجتمعنا للنهوض به، وأن نراعي دوما حاجاته الأساسية.

ويمكن في هذا المجال تقديم عدد من المقترحات تتلخص بما يلي:

  • إن نقطة الانطلاق هنا تتمثل في تبني سياسة تعليمية تولي التعليم التقني والتطبيقي الاهتمام الذي يستحقه. سياسة تعليمية تجعل من التعليم التقني والتطبيقي غاية لفتح المجال أمام الطلبة لمواصلة تعليمهم العالي، ووسيلة في الوقت نفسه لإضفاء صبغة معرفية تعتمد على تطوير الذات وتطويعها لخدمة الوطن والمجتمع بما تملكه من مهارات ومعرفة تقنية عالية. ويجب التذكير مجددا أن الرؤية الملكية أكدت مرارا على أن هناك ضرورة ملحة للتوسع في مجالات التعليم المهني والتقني والتطبيقي، وهو ما تطرقت إليه كتب التكليف السامي المتتابعة لما له من أهمية في تزويد سوق العمل الأردني بالكفايات اللازمة لدعم النمو الاقتصادي وبما يتلاءم مع متطلبات سوق العمل، ولا سيما في ضوء ازدياد الفجوة بين مخرجات التعليم وحاجات السوق خصوصاً بالنسبة لخريجي الجامعات.

ولإنجاح هذه السياسة لابد من مواجهة التحديات التي تقف عائقا أمامها وتطويعها والتغلب عليها. واول هذه التحديات النظرة الدونية للتعليم غير الأكاديمي. فالصورة التقليدية تراه في درجة أقل، كما تراه يقيد حياة الراغبين في متابعة دراساتهم الجامعية العليا ويحد من طموحاتهم. بالإضافة إلى أن الظروف الوظيفية والأنظمة المالية ما زالت منحازة تماماً للشهادة الجامعية الأكاديمية. الأمر الذي يستدعي معه الموائمة بين حاجات الطالب ورغباته المشروعة والارتقاء بمستوى وبرامج التعليم التقني والتطبيقي وفقا للتحديات والمتغيرات التكنولوجية التي تؤثر في قطاعات الإنتاج المختلفة. وفوق ذلك ضمان عدد من الظروف الموضوعية التي تجعل من ذلك التعليم متطلبا حياتيا.

فالتعليم التقني الذي يعاني في كثير من الدول العربية من تأثير أفكار اجتماعية وموروث ثقافي ويقابل باندفاع مجتمعي اتجاه التعليم الأكاديمي، يحتل المكانة الأولى في توفير وإعداد الكوادر البشرية المدربة والمؤهلة للالتحاق بسوق العمل. لكنه في المقابل يفتقر في كثير من الدول العربية – إضافة الى أثر البعدين الاجتماعي والثقافي-  إلى تشريعات تحتم على أصحاب المهن ألا يوظفوا غير الحاصلين على شهادة أو "رخصة" تحدد أهلية كل منهم للقيام بالعمل الموكول إليه تبعا لأهليتهم الأكاديمية والمهنية. الأمر الذي سمح بدخول أشخاص غير مؤهلين للقيام بأعمال قد تحدث ضررا بينا في الكثير من القطاعات بسبب عدم توفر مرجعية مهنية موثوقة خاصة في ظل تداخل التكنولوجيا والآلات الرقمية في مختلف مناحي الحياة.

ولا شك أن الأردن قد تنبه لهذا الأمر مسبقا ووضع الخطط المناسبة لمواجهة انعكاساته. ويمكن لنا أن نرى بإنشاء جامعة البلقاء التطبيقية وجامعة الطفيلة التقنية والجامعة الألمانية الأردنية بما تحمله كل منها من تركيز على برامج تقنية تطبيقية، وما يمكن أن تزود به خريجيها من مهارات جهدا مشهودا ومشكورا لسد الفجوة المتحققة بين متطلبات سوق العمل ودور التعليم العالي في تلبية احتياجاته. يبقى الأمر في انحراف مسار البعض منها عن التخصصات التقنية والتطبيقية إلى المسار الأكاديمي بهدف تقليل النفقات وتحقيق المزيد من الدخل. كما أن ارتفاع رسوم الجامعة الألمانية واخراجها من قائمة القبول الموحد يحرم فئات عديدة الاستفادة من تلك التخصصات المتميزة التي تقدمها والتي تلقى قبولا حسنا في سوق العمل المحلي والخارجي.

وثاني هذه التحديات هو تلكؤ الجامعات الوطنية في تقديم البرامج التقنية والتطبيقية التي تتناسب ومتطلبات العصر وتحدياته، والتي بدورها تتماشى مع متطلبات السوق المتغيرة تبعا للتطور التكنولوجي المتسارع. فجامعاتنا الوطنية ليست بأفضل حالاتها فهي تكتفي بطرح المزيد من التخصصات الراكدة التي يكاد يندر الطلب على خريجيها بسبب انخفاض كلفتها، فيما تبتعد عن طرح التخصصات المهنية والفنية والتطبيقية التي تؤكدها دراسات احتياجات سوق العمل بسبب كلفتها العالية.

ومن ينظر إلى إعلانات الجامعات الخاصة يمكنه التعرف على نوعية التخصصات المطروحة ومدى افتقارها إلى التخصصات التطبيقية والفنية وتركيزها على التخصصات الإنسانية، ناهيك عن دور تلك الجامعات المتواضع في البحث العلمي والتعاون البناء مع قطاعات الإنتاج المختلفة. الأمر الذي يعني أن العديد من الجامعات أصبحت مراكز لتفريخ البطالة بدلا من تزويد السوق بالكفايات اللازمة لتقدمه ونجاحه.

ويمكن التحقق من خطر ما نحن سائرون فيه بسهولة من خلال متابعة أعداد الطلبة الملتحقين بالجامعات الخاصة في السنوات الخمس الماضية ومقارنة معدلاتهم في الشهادة الثانوية العامة ومعدلاتهم الجامعية، كذلك مقارنة نسب النجاح والرسوب. وحتى لا نظل نراوح أماكننا في ظل ازدياد اعداد الراغبين بالالتحاق بالجامعات وتسربهم عند التخرج إلى سوق البطالة.

وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن هذه الجامعات هي مؤسسات ربحية يمكننا التنبؤ بأن الإنفاق على المشاغل والمختبرات والمدرسين من أصحاب الكفاءة لن يكون في أعلى سلم أولوياتها. ولا غرابة أنها تكثر من طرح التخصصات التي لا تحتاج أكثر من "لوح وطبشوره"، وبالتالي فإنها تهمل جوانب هامة من جوانب العملية التعليمية وهي نوعية التعليم وسويته وملائمة مخرجاته لحاجات سوق العمل. وهو ما يلقي على مجلس التعليم العالي عبئا إضافيا، خاصة مع الضغوطات التي يواجهها من أصحاب المال وأولئك الذين يسبحون بحمدهم في مواقع مؤثرة عديدة.

ولنا فيما قامت به الدول الصناعية في تعزيز أهمية التعليم التقني والتطبيقي أسوة حسنة، فقد وفرت له كافة الإمكانات لما له من أهمية في عمليات التنمية حتى تزايدت أعداد الملتحقين به إدراكاً منها لأهميته وجدواه في توفير المزيد من فرص العمل وإبعاد شبح البطالة عن الخريجين. كما واءمت بين حاجة الطالب للتعليم والتعلم وحاجته للتدريب فمكنته من قضاء فترة مناسبة في المصانع والمعامل واستقدمت لتدريبه الفنيين من تلك الصناعات، وبالتالي مكنت الطالب من الحصول على الخبرة والمهارة اللازمة التي تمكنه من ولوج سوق العمل حال التخرج. وهو ما نحتاجه في خريجينا كي يتمكنوا من لعب دورهم في تحقيق التنمية المستدامة للاقتصاد الوطني.

 

  •         إن دور السياسات التربوية هو تلمس حاجات المجتمع واعداد البدائل التي تخدمها. فالجامعات القائمة لا تستطيع استيعاب كافة الطلبة الراغبين في دخولها خاصة مع وجود فائض ملموس عن الحد الأعلى للطاقة الاستيعابية في الجامعات الرسمية. ولا يمكن أن يكون الحل بتخفيض أعداد الطلبة في الجامعات الرسمية أو وقف القبول فيها بحجة المحافظة على المعايير العالمية للجودة أو بحجة التخصصات المشبعة والفائضة عن الحاجة، بل يكمن الحل في السعي لإيجاد بدائل عملية لاستيعاب الطلبة بدلا من دفعهم للدراسة في الخارج أو البقاء خارج أسوار الجامعة مع ما يصاحب ذلك من انعكاسات سلبية آنية ومستقبلية.

وللتدليل على ما سلف دعونا ننظر للمعطيات التالية نظرة فاحصة موضوعية تسعفنا في فهم الواقع التعليمي وترشدنا لأفضل الطرق لإصلاحه:

فقد أتاحت السياسة التعليمية المتبعة بزيادة أعداد القبول الجامعي لتصل إلى حوالي 90 % من الناجحين في الثانوية العامة سنويا، فيما بلغت نسب الملتحقين منهم في التخصصات العلمية والتطبيقية والمهنية والتقنية أقل من 30% على أفضل تقدير، مقابل الزيادة المفرطة في تخصصات العلوم الإنسانية والاجتماعية. ولم تزد في الوقت نفسه نسبة الملتحقين من الناجحين في الثانوية العامة في مختلف المسارات الذي تقدمها كليات المجتمع عن 10% على الرغم مما توفره تلك الكليات من تخصصات مطلوبة لسد حاجة قطاعات الإنتاج المختلفة، وخلق قوة دافعة للاقتصاد الوطني. فالمشاريع العملاقة المنوي انجازها تحتاج للمزيد من الأيدي المدربة على أحدث التقنيات العلمية والتكنولوجية. خاصة إذا ما لاحظنا على سبيل المثال أن كل مهندس يحتاج 3-5 تقنيين وفنيين لمساعدته في انجاز عمله.

وهي سياسة مغايرة في الواقع لإحدى نقاط استراتيجية التعليم العالي والقاضية بتخفيض القبول في البرامج الإنسانية والاجتماعية مقابل التوسع في البرامج التقنية والتطبيقية.

ولما كان التعليم ركيزة أساسية من ركائز التنمية والتحديث فإن مثل هذا الهدف الاستراتيجي الهام لا يمكن تحقيقه في ظل استمرار السياسات التعليمية السابقة والتي أدت إلى ضعف وتدني الإقبال على التعليم التقني والمهني والتطبيقي والذي تحجم عن طرحه الجامعات الأردنية الخاصة والعامة على حد سواء.

هنا يأتي دور السياسة التربوية التي تعنى بتوفير البديل الجيد – التعليم التقني والتطبيقي- وتحفيز الطلبة واولياء الأمور والجامعات الوطنية كافة على الاستثمار فيه. هذا الدور لا يقتصر على وزارة التعليم العالي ومجلس التعليم العالي بل ينسحب على وزارة التربية والتعليم .

 

ثالثا: يمكن لمجلس التعليم العالي قيادة هذه السفينة التي تحوي بين ركابها أصحاب العمل ومؤسسات التعليم العالي والطلبة، وأن يلعب دورا هاما في التوفيق فيما بينهم وتذليل الصعوبات القائمة. فالمجلس الذي أصبح بفضل رئيسه يستهلك جل وقته في إشكالات التجديد والتعيين لرؤساء الجامعات والاختلاف أو الانقسام حول ذلك مطالب بالتفرغ لمستقبل الخريجين وحاضر التنمية. ومثل ذلك يمكن تركه للجنة مستقلة ليس من بينها صاحب مصلحة أو طامح بمنصب وضمن شروط ومواصفات موضوعة مسبقا من قبل المجلس ومعلنة للعموم تبين الشروط المطلوبة لشغل الوظيفة وأوزانها. فأولى أولويات الوزير والمجلس الكريم رسم السياسة العامة للتعليم العالي حسب الاستراتيجيات الوطنية ومتابعة تنفيذها. ومثل ذلك يحتاج دوما إلى تجانس في الرؤى بين الوزير والمجلس والعمل كفريق واحد لصهر تلك الرؤى في بوتقة واحدة كي يتمكن المجلس من جسر الفجوة القائمة بين أطراف المعادلة.

كما يحتاج الأمر إلى إعادة النظر بتشكيلة المجلس التي تشوبها بعض الهنات والتي يمكن ملاحظة نتائجها عند التصويت على قراراته. فلا يعقل أن يقوم الأمين العام بمعارضة توجهات الوزير والا فقد منصبه أو أعتبر ما يقوم به مناكفة في ظل مفهوم طاعة اولي الأمر منكم. ولا يعقل أن يكون موقف رئيس هيئة الاعتماد حياديا في النهاية، فالهيئة جهة رقابية لا يجوز لها أن تساهم في رسم سياسة ما ثم تراقب وتحاسب من امتثل لتلك السياسة. ولتقريب الصورة فإن رئيس الهيئة يقدم تقريره للمجلس عن واقع الجامعات الرسمية ومدى مطابقة ذلك لأسس وقواعد الاعتماد العام والخاص. لكنه عند ممارسة عضويته في المجلس يوافق الوزير على سياسته في تحديد أعداد الطلبة المنوي قبولهم في كل جامعة وكل تخصص قبل أن يعود الى الهيئة من جديد ويطالب باحترام الطاقة الاستيعابية ومجازات المخالفين. والأمر لا يخلو من تبعات على أعضاء المجلس من الهيئات التدريسية أو نواب الرؤساء الذين يجدون دوما أمامهم قضايا تخص جامعاتهم سواء في مجال تعيين رؤسائها أو في اعفائهم من مناصبهم أو في عدم التمديد والتجديد لهم أو في متابعة أداء الجامعة ودورها التنموي والتعليمي. ناهيك عن توافق عضويتهم في المجلس وطموحهم الشخصي المشروع عند شغور المناصب القيادية في الجامعات.

وأعتقد أن من المناسب إعادة النظر بتشكيلة المجلس، وليس باستبدال أعضاءه كلما اختلف الفريقان، بحيث يجري تحصينه أمام الوزير ويصبح مجلس خبراء في التعليم العالي يتكون من وزراء سابقين للتعليم العالي أو الوزارات التي على علاقة مباشرة بالتعليم كالتربية والعمل والتخطيط وغيرها، وآخرين من رؤساء مجالس الأمناء السابقين ورؤساء الجامعات السابقين ومن في حكمهم في الخبرة والدراية بشؤون التعليم العالي وأثره على الاقتصاد الوطني، على ألا يكون لأي منهم مصلحة خاصة أو لزوجه وأولاده في أي مؤسسة تعليم عالي، كما يمنع على أي منهم الاستفادة من موقعه في المستقبل بإشغال أي وظيفة في مؤسسات التعليم العالي أو المساهمة في رأسمالها. وقد يؤدي ذلك إلى التخفيف من دور الوزير كموجه لعمل المجلس ومن فرض رأيه على المجلس والجامعات على حد سواء أو تمكينه من استبدال الأعضاء المناوئين له بين ليلة وضحاها لتسيير العمل بمشتهاه. وهو ما يؤخذ على بعض الوزراء من اعتداء على استقلالية الجامعات والمجلس أو تعظيم لدور الوزارة والوزير، وهو أمر يغذيه بعض الذين يأتون الوزارة بممحاة للجهود السابقة التي شاركت بها الجامعات وأصحاب الخبرة مقرونة بقلم رصاص لخلق خطة استراتيجية جديدة لا تختلف عن سابقاتها سوى بالإخراج والتصميم.

 

رابعا: مرة أخرى يجب التأكيد على دور مجلس التعليم العالي في رسم السياسة التعليمية ووضع الاستراتيجيات المناسبة لتنفيذها ومتابعة أداء المؤسسات التعليمية الخاصة بما يتناسب مع رؤية الوطن واستراتيجيته ومدى التزام تلك المؤسسات بذلك. إذ لابد للمجلس من إعادة النظر في سياسة القبول وآلياته، وفي محاولة التوفيق بين الاعداد الكبيرة التي تتوجه للجامعات وقدرة تلك الجامعات على تقديم التعليم الجيد وتوفير البيئة الجامعية المناسبة. وفوق ذلك بما لا يتناقض مع استراتيجية الدولة ورؤاها.

لكن ذلك لا يتأتى من خلال الطرق المتتابع على ما يدعى زورا وبهتانا "الاستثناءات" والتي وصلت حد المطالبة بإلغاء مقاعد أبناء الشهداء والمقاعد المخصصة للجيش والأقل حظا والمحافظات أو تخفيض أعدادها بحجج متهافتة. فهذه ليست استثناءات عن القاعدة العامة في القبول إنما حصص لفئات من الشعب حرمت من بيئات تعليمية مناسبة تتنافس عليها فيما بينها وحسب معايير صارمة ومعلومة للكافة.

وإذا ما كان هناك بعض الخروج على العدالة والمساواة في قائمة العشائر تحديدا فإن إعلان الديوان الملكي العامر منذ عام 2014 عن توقف إرسال قوائم خارج القبول الموحد واكتفائه بتقديم المنح الدراسية لعدد من الطلبة المحتاجين والمتميزين الذين تقدموا اليه بتلك الطلبات يمكن أن يشكل أرضية مناسبة يبنى عليها في المستقبل بحيث تقنن - ومن خلال القبول الموحد أيضا- حصص تلك المدارس المتعثرة لأسباب عدة لا يتحمل وزرها الطالب نفسه.

إن عملية البناء الحديثة لا تعتمد على العدد والكم بل تعتمد على الجهد الإنساني الخلاق الذي يستند إلى الكفاءات القادرة والإدارات المخلصة. ومن ينظر إلى نتائج الثانوية العامة يلحظ اللامبالاة وعدم الشعور بالمسؤولية. فوزارة التربية والتعليم تعلم قبل غيرها كم من المدارس الثانوية خارج العاصمة والمدن الرئيسة والتي لم ينجح منها أحد قد أمضت أغلب أيامها الدراسية دون معلمين في تخصصات عدة مثل الفيزياء والرياضيات واللغة الانجليزية. وهي تعلم قبل غيرها قدرة المعلم على العطاء في تلك الظروف البائسة التي تعاني منها العديد من المدارس. الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى تدني مستوى خريج الثانوية العامة وهو مدخل التعليم العالي، والمدخل الجيد مخرج جيد.

فالمعروف أن معظم أبناء القرى والبوادي يفتقرون لأبسط الحاجات التي تعينهم على التعلم وتجاوز خط الثانوية العامة بنجاح، فجلهم لا تتوفر في مدارسهم أبسط الوسائل التي تعينهم على تجنب برد الشتاء وحرارة الصيف، ناهيك عن عدم توافر المدرسين الأكفاء في المواد العلمية واللغة الإنجليزية. الأمر الذي يصل بالتعليم في تلك المناطق إلى أسوأ درجاته، وبالتالي يؤثر سلبا على تحصيلهم العلمي وعلى التحاقهم بالجامعات. ولنا في نتائج الثانوية العامة التي تظهر بعض المدارس دون ناجحين عبرة. ثم يأتيك من يطالب بجرأة باعتماد تلك النتائج شرطا للقبول الجامعي.

وإذا ما سلمنا أن التعليم العالي جزء أساس من التنمية المستدامة فمن المسلم به أن يشمل التعليم العالي جميع مناحي الأردن كي تعم الفائدة فئات الشعب كافة. وإذا ما تم إلغاء "الاستثناءات" كما يطالب البعض أو تخفيضها، أو اعتماد المعدل كأساس للقبول الجامعي دون النظر إلى تمايز فئة على حساب فئات أخرى في ظل عدم تجانس البيئة التعليمية في المدارس فإننا بذلك ندفع الكثيرين للخروج على السلم الاجتماعي. فمع أن اعتماد معدل الثانوية كمعيار للقبول يبدو في ظاهره مساواة تامة بين الطلبة، إلا أنه في الحقيقة يجانب العدالة ويعتدي عليها في ظل عدم تكافؤ الفرص. إذ كيف لنا أن نساوي بين الطلبة في القبول الجامعي تبعا لمعدلاتهم في ظل تمايز المدارس والمدرسين، وهل يمكن أن ينظر إلى مدارس عمان الجنوبية والشرقية بنفس المنظار الذي ننظر فيه إلى المداس الخاصة أو مدارس عمان الغربية، ناهيك عن مدارس القرى والمخيمات والبادية والأرياف.

من هنا لا يجوز النظر إلى تخصيص جزء من أعداد المقبولين الجامعيين كاستثناء بل هو تمييز إيجابي على أسس اجتماعية واقتصادية لفئة لن تتمكن من المنافسة بسبب ظروف فرضت عليها ولم تختارها بمحض ارادتها. ومثل هذه المحاولات اليائسة لرفع المعدلات ووقف الاستثناءات لا شك تندرج تحت ظل تعدد القرارات والاجتهادات التي يأتي بها بعض الوزراء لتخليد ذكراهم.

وباعتقادي أن مجرد استيعاب مثل هؤلاء الطلبة بدل الاهتمام بتوفير النواقص لهم في مناطقهم ليس أفضل الحلول، لأن نقص المعرفة في المواد العلمية سيستمر مع كل منهم حتى في حياته الجامعية. وهو ما تؤكده الدراسات التي أجريت على طلبة إحدى الجامعات الأردنية من ذوي المعدلات الواقعة بين (65-70%)، والتي بينت أنه كلما تناقص معدل الثانوية العامة كلما ارتفعت نسب التسرب والرسوب وطالت مدة الدراسة ضعف المدد المقررة.

المجلس مطالب إذن في معرض ملاحظته للرؤى الوطنية ومدى تطبيقها على أرض الواقع بوضع الحلول الناجعة للتغلب على نقص المعرفة لدى تلك الشريحة من الطلبة بإضافة فصل دراسي أو أكثر تطرح فيه عدد من المساقات الدراسية التي تعمل على تأهيل هذه الشريحة وتهيئتها للدراسة الجامعية بديلا عن رفع الحد الأدنى للقبول الجامعي إلى 70% في الجامعات الرسمية و65% للجامعات الخاصة بحجة رفع سوية التعليم. فالأهم من ذلك هو إعادة النظر في الحدود الدنيا للتخصصات العلمية والاقتصادية في الجامعات الوطنية كافة بحيث يراعى فيها تناسب المعدل مع متطلبات التخصص المعرفية، أما اختلاف الحد الأدنى للقبول بين الجامعات الرسمية والخاصة فهو تمييز سلبي يجب التخلص منه. فنحن أمام جامعات وطنية تصب مخرجاتها في سوق العمل المحلي والعربي ويجب أن تكون على سوية عالية مما يفترض معه – بداية - تساوي الحد الأدنى للقبول في الجامعات وفي التخصصات التي تطرحها.

 

خامسا: يشهد العالم اليوم مشكلة توظيف تتفاقم سريعا بسبب العرض الكبير في طالبي التوظيف من الخريجين الذين لا يتمتعون بالمهارات اللازمة لشغل الوظائف المتاحة. فنسبة توظيف الخريجين الجامعيين كما تؤكدها تقارير ديوان الخدمة المدنية لا تتجاوز 10-15% سنويا من الجامعيين وفي تخصصات محددة ووزارات بعينها، مما يشي بأن لدينا أكثر من (60) ألف خريج جامعي في السنة تضاف للأعداد التي سبقتها. الأمر الذي يعني أن مجموع المتعطلين عن العمل في غضون السنوات الخمس القادمة سيتجاوز حاجز النصف مليون. وهو تحد كبير لخطط التنمية المختلفة التي تحاول الدولة من خلالها جاهدة تقليل نسب البطالة والفقر، مما يشكل بصدق قنبلة موقوتة يجب معالجتها.

الأمر الذي يحتم على مؤسسات التعليم العالي والقائمين عليها البحث في الحلول الجذرية التي ترفع من كفاءة الخريج والتي تؤدي بالنهاية لمزيد من التوظيف. .

علينا دوما أن نتابع تنوع قطاعات الإنتاج المختلفة وتغير حاجاتها ومتطلباتها لتقديم البرامج التي تتناسب وتلك التطورات. كما علينا أن نهتم دوما بشراكة القطاع الخاص للاستفادة من خبرات العاملين فيه في مجالات التدريب وتطوير المناهج وملاءمتها لحاجات السوق. ومن المهم أيضا تحسين البيئة التعليمية والاهتمام أكثر بتدريب الطلبة على ما يحقق متطلبات القطاعات المختلفة. ويمكن البدء بالبحث عن مساعدة فنية ممن يملكون مثل ذلك في قطاعات الإنتاج المختلفة بهدف تقديم مثل هذه البرامج تبعا لمتطلبات السوق. فمثل هذا التعاون يمكن القطاع الخاص من المساهمة الفاعلة في التدريب والتأهيل وفي تقديم الخبرات المناسبة لصقل شخصية الطالب وتطوير مهاراته اللازمة لسوق العمل كي نضمن من خلال هذه المنظومة من التعاون أن نقدم للوطن وأبنائه خريجا قادرا على خدمته والعمل في مصلحته.

لابد إذن من احداث مراجعة شاملة وخلق حالة من الشراكة الحقيقية بين كافة الفاعلين في قطاع التعليم العالي لإعادة الالق الذي تميز به. فالهم الوطني يتلخص حاليا بالحد من البطالة لما تمثله من خطر وتعدي على السلم الاجتماعي والاستقرار، خاصة إذا ما نظرنا إلى أن معظم الملتحقين في التخصصات الإنسانية هم أبناء عسكريين وموظفين ومزارعين تمكنوا من تعليم أبناءهم على حساب قوتهم اليومي بحثا عن مستقبل أفضل يضمن لهم حياة كريمة، لكنهم في الأغلب لن يجدوا عملا بعد التخرج بسبب تخصصاتهم التي أتيح لهم الالتحاق بها والتي لا تلقى رواجا في سوق العمل.

 

سادسا: إن إقامة جامعة تقنية أخرى للتعليم التقني بالتعاون مع إحدى الدول هنا أو هناك كما يكثر الحديث في الآونة الأخيرة قد لا يؤدي الفائدة المرجوة. بل إن الاستعاضة عن ذلك بدعم الجامعات القائمة، خاصة تلك التي أنشأت لأغراض تقنية وتطبيقية، وحثها على العمل جنبا إلى جنب مع أصحاب الخبرة والكفاءة من المؤسسات التعليمية والتدريبية في الداخل والخارج، وطرح التخصصات التقنية والتطبيقية المتنوعة حسب حاجة السوق المحلي والعربي مقابل التقليل التدريجي من الأعداد المتزايدة في التخصصات الإنسانية والاجتماعية قد يشكل الحل الأمثل. فإنشاء الجامعات يحتاج إلى الوقت والجهد والمال، ويمكن إذا ما قامت الدولة بتوفير المخصصات المالية للجامعات القائمة أن تختصر الوقت وتلبي الحاجة وترفع سوية التعليم العالي وتوجهه الوجهة الأمثل.

ويمكن البدء أولا بتطوير الجامعات الوطنية القائمة وتوجيهها نحو التعليم التقني والتطبيقي وتشجيعها على طرح تخصصات تقنية بحتة بالتعاون مع القطاعات المختلفة ومع جامعات تقنية عالمية مرموقة لرفد السوق المحلي والعربي الذي يعاني من نقص بين في الخبرات والتخصصات. وفوق ذلك تطوير المناهج الدراسية القائمة لتتناسب مع المهارات التي يحتاجها سوق العمل المحلي والخارجي.

فالجامعات القائمة تعاني من شح الموارد المالية في ظل ابتعاد الحكومات المتعاقبة عن دعمها الدعم المناسب. الأمر الذي يجبرها على فتح المزيد من التخصصات الإنسانية والمزيد من البرامج الموازية لتغطية الكلف المتزايدة للتعليم وتفاقم النفقات في ظل عدم قدرتها على رفع الرسوم الدراسية. وما لم تقم الحكومة بمراجعة سياستها تلك فإن الجامعات ستبقى ضمن تلك السياسة غير المنتجة، فيما سيبقى البعض منها يعاني لتوفير الرواتب الشهرية.

لقد عملت بريطانيا على سبيل المثال على عدة محاور لجسر تلك الهوة خلال الأعوام الماضية أبرزها مضاعفة أعداد الجامعات التقنية والتخصصات التقنية وزيادة الابتعاث لها وتشبيك الصناعات القائمة من خلال المشاريع المشتركة وتوفير التلمذة والتدريب للطلبة وتعويض المصانع عن ذلك. وهو ما يجب أن يقوم به الأردن من خلال شراكاته مع الدول المتقدمة ومن خلال خبراته التي اكتسبها والتي يفخر دوما بتقديمها للآخرين.

بالمقابل عانى التعليم العالي في الفترة الماضية من قرارات متباينة أثرت سلبا على جودة التعليم من ناحية، وعلى ازدياد أعداد العاطلين عن العمل وعدم تمكينهم من المشاركة الايجابية في التنمية الشاملة من ناحية أخرى. ولعل أهم هذه القرارات السلبية هو التوسع الهائل في القبول الجامعي بقرارات حكومية لأسباب اجتماعية واقتصادية عديدة، والتي هدفت من ناحية إلى توفير المتطلبات المالية المتزايدة للجامعات الرسمية وإلى مواجهة الضغوط الاجتماعية من ناحية أخرى.

وكان من أثر تلك السياسات المتراكمة قلب الهرم التعليمي بزيادة أعداد الملتحقين بالجامعات حتى ناهز (330) ألف طالب مقابل انخفاض أعدادهم في كليات المجتمع -الرافد الأساس لتلبية حاجات سوق العمل من المهن المختلفة- للحد الأدنى منذ عشر سنوات وعلى عكس المعمول به في الدول المتقدمة كافة حتى أصبح أقل من 10% من عدد الجامعيين، وحتى أصبح بلدنا يبنى بأيدي غير أبنائه من الوافدين.

ولست هنا في معرض الوقوف أمام التعليم الجامعي ورفضه أو التشكيك بجدواه لكنني أتساءل بكل حرقة عن حاجة المجتمع لكل تلك الأعداد المتزايدة من الخريجين الجامعيين في تخصصات مشبعة وراكدة تكاد تنعدم فيها فرص العمل. ولدينا في المقابل إمكانية لدعم عدد من كليات المجتمع المؤهلة وتوجيهها لتقديم برامج تدريبية قصيرة وطويلة الأجل، وأخرى على مستوى الدبلوم في التخصصات التقنية والتطبيقية تعمل على استيعاب عدد من الناجحين والراسبين الذين تتزايد أعدادهم سنويا في الثانوية العامة، كما تعمل على استيعاب عدد من الخريجين الجامعيين في دورات متخصصة تؤهلهم لولوج سوق العمل. فالهرم التعليمي في الأردن هرم مقلوب تتكاثر فيه الأعداد المتجهة للتعليم الجامعي مقابل تناقص نسب التقنيين فيه على المستوى المتوسط، وهو ما يمكن أن تتعاون الوزارات المعنية كوزارة التعليم العالي والتربية والتعليم والعمل على تعديله بشكل جذري من خلال كليات المجتمع القائمة.

إن مخرجات التعليم الجامعي التي تركز على التخصصات الإنسانية لا تتناسب مع حاجات سوق العمل التي يشغلها حاليا قرابة مليون وافد، يعمل بشكل تقريبي أكثر من 70% منهم في قطاع الخدمات و15% في الصناعة، 10% في الإنشاءات و5% في الزراعة. في حين أن الأقدر والأقرب على سد جزء كبير من تلك الاحتياجات هو التعليم الجامعي المتوسط (من سنة إلى ثلاث سنوات) وهو التعليم المهمل بفضل السياسة التعليمية المتبعة على مختلف مستويات التعليم العام والمتوسط والجامعي.

وإذا ما أضفنا أعداد الخريجين سنويا لأعداد العاطلين عن العمل والذي يناهز (300) ألف طالب وظيفة مقابل حاجة البلد إلى مزيد من الأيدي العاملة الماهرة والمدربة، وتلك المؤهلة من خريجي التعليم المهني والتقني الذي تنفرد به كليات المجتمع عن سواها، يمكننا أن نتصور ما نحن ماضون في طريقنا إليه: نقص في العمالة المدربة التي لا بد من استيرادها من الخارج، مع ما تحمله من مشاكل اقتصادية واجتماعية، يقابله زيادة في أعداد الخريجين الجامعيين، وجلهم من أبناء القرى والبوادي والأرياف، وفي تخصصات راكدة ومشبعة لا يحتاجها سوق العمل لكنها تتكاثر عاما بعد عام. إنه لواقع مرير يشكل بالفعل قنبلة موقوتة يجب الإسراع بنزع فتيلها.

فإذا ما قامت وزارة التربية والتعليم برفع نسبة البرنامج المهني والتطبيقي لديها، وقام مجلس التعليم العالي بالعمل مع الجامعات الوطنية على تخفيض أعداد المقبولين في التخصصات الراكدة والمشبعة واستبدالها بتخصصات تقنية وتطبيقية وتشجيع الجامعات وكليات المجتمع على ذلك النهج بمختلف السبل المتاحة، يمكن عندها تعديل هذا الهرم لما فيه المصلحة الوطنية.

وهذا الهرم المقلوب في التعليم العالي ينعكس سلبا على الهرم المتعلق بالتوظيف. فمع الأخذ بتناقص الفرص الوظيفية في القطاع العام وقصرها على التعليم والصحة وفي مجالات محددة، تتركز معظم الوظائف المتاحة في القطاع الخاص على تلك التخصصات المهنية والتقنية، كما تتطلب مزيدا من التدريب وهو ما يمكن أن توفره كليات المجتمع وتقوم بذلك بإحلال العمالة الأردنية محل الوافدة. وهو أمر لا يتأتى دون زيادة أعداد الطلبة المتجهين للتعليم الجامعي المتوسط على حساب التعليم الجامعي. كما لا يمكن النجاح فيه دون مراعاة الثقافة الاجتماعية والتغلب عليها بتوفير الحوافز المادية والمعنوية التي تضمن لهذه الشريحة حياة مستقرة.

فمن المهم أن نعي ضرورة تعديل التشريعات القائمة بهدف منح خريجي تلك التخصصات افضلية في الرواتب والعلاوات بما يحفز العديد من الطلبة على الالتحاق بها. فالوضع الحالي يشكل قوة طاردة تتطلب إيجاد حلول جذرية خلاقة وشاملة لا تقتصر على مراجعة السياسات التعليمية المتبعة وتقليل أعداد الطلبة الملتحقين بالتخصصات الإنسانية والاجتماعية بل تتعداها إلى تقديم الحوافز المناسبة لتشجيع الطلبة للالتحاق بالبرامج التقنية والتطبيقية المختلفة على مستوى البكالوريوس والدبلوم المتوسط كالإعفاء من الرسوم الدراسية أو تقديم المنح الدراسية أو ربط الخريج بالوظيفة أو غيرها من المبادرات الخلاقة.

ورغم ذلك لا يمكن للحكومة العمل بهذا التوجه دون أن تراعي كليات المجتمع التطورات المتسارعة في حاجات سوق العمل سواء من حيث التركيز على التخصصات التقنية والتطبيقية والابتعاد عن التخصصات الانسانية، أو من حيث التركيز على التدريب والمهارات الحياتية المصاحبة. نحتاج الى جملة إجراءات عملية تتمثل بتحويل كليات المجتمع القائمة إلى كليات متخصصة يتم تطوير برامجها ومناهجها بالتعاون مع قطاعات الإنتاج المختلفة كي نتمكن من خلالها استيعاب الاعداد الكبيرة طلبة الثانوية العامة ومن الخريجين المتعطلين وتدريبهم على متطلبات المهن المتاحة.

 

سابعا: إن الشراكة بين الجامعات وقطاع الصناعة من الأهمية بمكان لكليهما فالصناعة يمكنها الاستفادة من الكفاءات العلمية المتوفرة في الجامعات ومن الأبحاث المقدمة فيها ومن المبالغ المالية المرصودة للبحث العلمي، فيما تقدم الصناعة المعرفة والخبرة لعضو هيئة التدريس وللطالب على حد سواء. وعلى الرغم من أهمية الاستثمار في عضو هيئة التدريس إلا أن الاستفادة من خبرات العاملين في المصانع والشركات في تعليم وتدريب الطلبة لا تقل أهمية. فالربط بين الوظيفة والخريج وبناء العلاقة القوية بين الجامعات والصناعة يجعل كل منها على دراية واسعة بنقاط الضعف والقوة لدى الآخر. لذا فإن التعاون البناء يصب في مصلحة الطرفين، وبالتالي يجب أن يلقى الترحيب الذي يستحقه لما له من انعكاس إيجابي على كليهما.

ولا يمنع الأمر من تشكيل لجنة فنية دائمة يشترك فيها ممثلين عن الجميع كي تراجع أهم مستجدات التعليم والعوامل المتغيرة التي تحكم مساراته مستقبلا لترسم أفضل الطرق للتكيف مع هذه المستجدات وأهمية هذه العوامل وسهولة تطبيقها. كما يمكن أن تبين لنا أهم المعوقات التي تواجه التعليم العالي عموما، والتعليم التقني والتطبيقي خصوصا، ووضع استراتيجية مشتركة للتغلب على تلك التحديات.

إن إعادة صياغة سياسات التعليم العالي ومكانته وبرامجه ومناهجه وأولوياته تحتاج إلى تضافر كافة الجهود، كما تحتاج إلى أكثر من جهة للنهوض بذلك باعتباره قضية وطنية حاسمة لتحقيق التنمية المستدامة واستمرارها. ولا بد هنا من مشاركة واسعة حقيقية وفاعلة للقطاع الصناعي فهو الفريق الاقدر على تحديد التخصصات العلمية والتقنية والمهنية المرغوبة لسوق العمل، وهو الأقدر على توفير فرص التدريب اللازمة لرفع مستوى المهارات لدى الخريج، ولديه القدرة على تحديد الخبرات الواجب توافرها في المتعاملين مع التكنلوجيا.

لقد آن الأوان لتغيير ما نشهده حاليا من ضعف التنسيق بين سوق العمل والجامعات وما ينتج عنه من ضعف التدريب وتوفير المدربين وتفاعل الشركاء. فالقطاع الصناعي شريك فاعل، ومشاركته والاستفادة من خبراته تشكل حجر الأساس في إنجاح المشروع وتحقيق الرضى المنشود في السوق المحلي والعربي. الأمر الذي يحتم على مجلس التعليم العالي أن يلعب دورا حيويا وايجابيا في التنسيق بين الجامعات وقطاعات الإنتاج المختلفة وبما يؤدي إلى تعديل السلوك الحالي لدى الجامعات وحثها على استبدال البرامج المكررة والتقليدية بالتخصصات المناسبة لسوق العمل، وحث القطاع الصناعي على تقديم خبراته وفتح مصانعه لتدريب الطلبة.

 

  •  

يتضح لنا مما سبق أن علينا أن نسارع إلى حل مشكلة التعليم العالي خشية أن نصل الى حالة من عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي في ظل تزايد عدد المتعطلين عن العمل، فالأرقام تؤكد أن انخفاض نسب البطالة يحتم انخفاضا لنسب الجرائم المرتكبة، والعكس صحيح تماما.

فالعالم اليوم يمر بتغييرات متسارعة تؤثر بصور مباشرة في قطاع التعليم وتفرض إعادة النظر في استراتيجياته تبعا للتغير المتسارع الذي يخلق مناخات جديدة تستوجب دوما مراجعة الاستراتيجيات القائمة. ومن هنا تصبح مواصلة تنفيذ استراتيجية التعليم العالي لسنة 2007 بما تحمله من رؤية مشتركة لكل الأطراف المعنية بقطاع التعليم العالي من أهم الأولويات، فالحاجة ماسة إلى توجيه الأطراف كافة نحو هدف مشترك كي لا يؤدي هذا التنوع في الأولويات إلى تبعثر الجهود وتشتيتها.

إننا أمام متطلب وطني يتعلق ببناء الإنسان بناء جديداً بعيداً عن الكثرة وصولا للنوع، وبعيداً عن منطق الربح والخسارة وصولا لإعداد الأجيال لمستقبل أفضل وخلق قوة دافعة للاقتصاد الوطني. وهذا الأمر لن يتأتى دون تصويب هرم التعليم العالي ليماثل ما هو كائن في الدول المتقدمة صناعياً وتكنولوجياً. وتحقيق ذلك قد لا يكون سهلاً كونه يتنافى مع الحسابات المالية التي تحكم معايير القبول سواء في الجامعات الرسمية أو الخاصة، لكنه متطلب أساس لوضع التعليم العالي في مساره الذي يتطابق مع ما تتطلبه كتب التكليف السامي.

فالجامعات الخاصة أينما كانت تركز ما أمكن على الجوانب الربحية، والتعليم التقني ذو كلفة عالية. وهو ما ينسحب على الجامعات الرسمية أيضا من حيث تحاشي الكلفة في ظل سعي العديد منها على توفير رواتب العاملين فيها في ظل تراخي الدعم الحكومي. وإذا ما رغبنا في إصلاح النظام التعليمي السائد وتوجيه الطلبة نحو التعليم التقني والتطبيقي فعلى المجلس والحكومة أن يأخذ كل منهما دوره بجدية والتزام. فنحن أمام مصلحة وطنية عليا على كل فرد فينا أن يراعيها وأن يجتهد لتحقيقها والا فقدنا انجازاتنا التي تحققت بالعمل الدؤوب قيادة وشعبا وابتعدنا عن الطريق الآمن لمستقبلنا. والأردن قادر على أن يلعب من جديد دورا محوريا في منظومة التعليم العالي وتأهيل العديد من أبنائه بكفاءة عالية تساهم في خدمة قطاعات الإنتاج المختلفة محليا وخارجيا.

إن الدولة في النهاية مطالبة بإيجاد الحلول المناسبة للمشاكل التي تواجه مواطنيها، ولا أهم من مشكلتي البطالة والفقر التي تواجه مجتمعنا في الوقت الحاضر، والتي تضغط على المجتمع والحكومة معا لاستنباط الحلول البناءة. وهو ما يدفعنا جميعا للبحث عن مخرج يقودنا من التعليم الذي يغذي الفقر والبطالة الى التعليم الذي يخلق مزيدا من فرص العمل والتوظيف. وللوصول لذلك علينا أن نفكر معا بطريقة مختلفة بناءه وأن نبحث عن الخيارات البديلة كي نصل إلى الحلول الواقعية المناسبة. وقد يكون الأهم هو المبادرة لخلق واقع جديد في التعليم العالي، وهذه وظيفة القياديين الخلاقين.

إن تاريخ الدولة الأردنية يؤكد على أنها الموظف الأساس للمواطن الأردني بغض النظر عن محدودية إمكاناتها ومواردها، وهي مع توقفها الآن عن لعب ذلك الدور بفعل عوامل الخصخصة وانفتاح السوق ونقص الموازنة ستفقد تعلق أبنائها بها كما ستفقد التفاف الجميع حولها في مختلف أنشطتها وبرامجها المستقبلية ما لم تعد النظر بسياساتها الراهنة، وخاصة التعليمية، وبما يتناسب مع حاجة السوق وفرص التوظيف المتاحة. وإذا كان للتقدم العلمي والتكنولوجيا نصيب وافر في الآفاق البعيدة التي يرتادها الإنسان المعاصر، فان الجهد البشري الذي يخطط ويدبر وينظم سوف يظل العامل الحاسم في تغيير مسار مستقبل الشعوب والحياة الكريمة التي تتطلع إليها.

نعم نحتاج إلى التغيير، ومجلس التعليم العالي هو المطالب اليوم بتفعيل إرادة التغيير.

اضف تعليقك

Plain text

  • No HTML tags allowed.
  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Lines and paragraphs break automatically.
Image CAPTCHA
أدخل الحروف التي تظهر بالصورة (بدون فراغات)