TLB News (طلبة نيوز للإعلام الحر)
العجز العربي: أسبابه ومآلاته
05/12/2023 - 1:45pm

د. أحمد بطَّاح
لا شك في أنّ المواطن العربي يتألّم وهو يُشاهد المجازر الرهيبة التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة من تطهير عرقي، وهدم مساكن على رؤوس ساكنيها، وقتل للأطفال وغير ذلك من الجرائم التي تستفز أيّ إنسان ذي ضمير حي، ولا شك أيضاً أنه يتألم - وربما أكثر - وهو يتابع العجز العربي الرسمي عن فعل أيّ شيء مؤثّر يمكن أن يُسهم في وقف هذه المجازر من خلال الضغط على إسرائيل مباشرةً، أو على الولايات المتحدة التي أعطتها الضوء الأخضر لفعل ما تفعله من مقارفات مُشينة يندى لها جبين الإنسانية جمعاء، ولعلّ هذا المواطن العربي يتساءَل بينه وبين نفسه: لماذا لا تستطيع الأمّة العربية التي يزيد تعدادها عن (400 مليون فرد)، وتتحكم في أهم مواصلات العالم (قناة السويس، مضيق باب المندب ....)، ولديها الفائض الأكبر من عصب الحياة المُعاصرة (أيّ النفط)، وتبلغ أرصدتها في البنوك الغربية "المليارات"، لماذا لا تستطيع أن تتخذ المواقف الجادّة الحازمة التي تكبح جِماح إسرائيل، وتُفهِم الولايات المتحدة أنّ لموقفها المنحاز تماماً لإسرائيل ثمناً باهظاً؟ ألّا تستطيع بعض هذه الدول أن تسحب سُفراءَها من إسرائيل كما فعل الأردن مثلاً؟ وألّا تستطيع بعض هذه الدول التهديد بوقف التطبيع مع إسرائيل مثلاً؟ وألّا تستطيع بعض هذه الدول وقف تزويد إسرائيل بالطاقة مثلاً؟ وألّا تستطيع بعض هذه الدول سحب بعض أرصدتها من البنوك الغربية مثلاً؟
إنّ وراء هذا العجز العربي في الواقع جُملة أسباب لا بدّ من الوعي بها ولعلّ أهمها:
أولاً: توزُّع الشعب العربي على (22) دولة لكل واحدة منها سياساتها ومصالحها والتي قد تتناقض أحياناً فيما بينها أكثر مما يمكن أن تتناقض مع إسرائيل، وهذا يذكّر بحقيقة بسيطة هي أنه ما لم يحقق العرب وحدةً ما (على نمط الولايات المتحدة)، أو مستوى معيناً من التضامن في كتلة قوية (على غِرار الاتحاد الأوروبي) فلن تقوم لهم قائمة، ولن يستطيعوا السيطرة على مصيرهم ومُقدراتهم. إنّ عالم اليوم لا يحترم الكيانات الصغيرة والضعيفة بل يزدريها ويدوسها!.
ثانياً: الحيلولة دون "تمكين" الشعوب العربية وإطلاق قواها الحيَّة من خلال أنظمة ديمقراطية تُتيح لجماهير الشعب المشاركة في صنع مصيرها ومستقبلها. إنّ الأمة العربية لن تتقدم ما لم تكُّن حُرّة، ولن تنجح شعوبها في التغلب على أعدائها (كإسرائيل التي تُعربد الآن في القطاع المنكوب) إلّا عندما تشعر بأنها تشارك في صنع القرارات التي تمس حاضرها وغَدَها، وهذا لن يتحقق إلّا بتبني الديمقراطية التي تفتح الآفاق للمشاركة الشعبية الحقيقية والفاعلة.
ثالثاً: ضعف معظم الدول العربية اقتصادياً رُغم الغنى المالي لبعضها (كدول الخليج العربي)، الأمر الذي يجعل معظم هذه الدول تعتمد على الدول الغربية لإسنادها، وهذا ما يقود لاحقاً إلى تكبيلها وجعلها تابعة بمستوى أو بآخر للدول الغربية، ولا تستطيع في المحصِّلة عندما ترى ما يحدث من جرائم في غزة إلا تسجيل مواقف لفظية تشتمل على كل مفردات الشجب والإدانة ولكنها لا تُقدِّم ولا تُؤخّر!.
إنّ الغرب هو الذي مزّق الأمة العربية من خلال اتفاقيات "سايكس بيكو" (1916)، وهو الذي أعطى وعد بلفور (1917) من أجل إنشاء الكيان الإسرائيلي، ولذا فإنّ تحالف العرب مع الغرب لن يفيدهم في نضالهم لتحقيق استقلالهم أو انتصارهم على أعدائهم، وليس أمامهم في الواقع إلّا أن يعيدوا هندسة علاقتهم الدولية وتحالفاتهم بما يحقق مصالح شعوبهم.
رابعاً: الانقسام الفلسطيني ففي حين يتطلب الوضع المأساوي في غزة الوحدة بين جميع الفصائل، وبين جناحي: السلطة الوطنية الفلسطينية في الضفة الغربية، والمقاومة في غزة، نجد أنّ الانقسام يتجذّر، ولا يبدو أنّ هنالك أملاً في ردم الهوة بين "النهج السياسي" الذي تتبناه السلطة في الضفة، "ونهج المقاومة المسلحة" الذي تتبناه "حماس" وبقية الفصائل في غزة، ولعلّ الرد الفلسطيني الأمثل في هذه الظروف هو المبادرة إلى إلغاء اتفاقيات "أوسلو" التي لم تتمخض إلّا عن مزيد من الاستيطان، وتضاؤل إمكانية قيام الدولة الفلسطينية، وكذلك المبادرة إلى "ضم" حماس وبقية فصائل المقاومة إلى منظمة التحرير الفلسطينية، وهي المظلة الشرعية للشعب الفلسطيني التي يعترف بها العالم.
خامساً: استمرار عالم "القطب الواحد" حيث تُهيمن الولايات المتحدة ويتبعها الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي يعني عدم وجود قوى مكافئة تستطيع أن تتبنى الحق العربي وتدافع عنه ليس فقط بالدعم العسكري ولكن أيضاً بتوفير الغطاء السياسي. إنّ الصين هي ثاني اقتصاد في العالم، ولكّن ما زالت غير ذات حضور قوي على مسرح السياسة الدولية، كما أنّ روسيا -وهي دولة عظمى عسكرياً- منشغلة الآن بحربها الضروس في أوكرانيا. صحيح أن العالم يتحول من عالم "القطب الواحد" إلى عالم "متعدد الأقطاب"، ولكن هذا التحول ما زال بطيئاً، الأمر الذي يجعل مساحة الحركة والمناورة أمام الدول العربية محدودة وغير ذات تأثير.
أمّا مآلات هذا العجز العربي المؤلم فهي مخيفة إذْ لن يؤدي إلّا إلى مزيد من الخنوع والتبعية بل ومصادرة حُرية شعوب الأمة وحقها في تقرير مصيرها، ولعب دورها الذي تستحق بين الأمم الحيّة. إنّ هذا العجز العربي يجب أن يكون دافعاً إلى استرجاع الذات والإرادة فالأمم الحيّة قد تواجه المآسي والنكبات، ولكنها أيضاً قد تنهض من كبوتها وتستأنف مسيرتها فمتى يا ترى؟!

اضف تعليقك

Plain text

  • No HTML tags allowed.
  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Lines and paragraphs break automatically.
Image CAPTCHA
أدخل الحروف التي تظهر بالصورة (بدون فراغات)