TLB News (طلبة نيوز للإعلام الحر)
تأملات للدكتور عيسی بطارسه: "وجهة نظر شخصية في التعليم العالي الأردني "
19/09/2014 - 11:15pm

طلبه نيوز
بقلم الدكتور عيسى بطارسة
عودتي إلى الأردن بعد حوالي الثلاثين عامًا التي قضيتها في الولايات المتحدّة الأميركية كانت بالفعل عودة للوطن، عودة مليئة بمزيج من مشاعر الفرح والحزن. ففي العام 2010 عرضت صاحبة السمو الملكي الأميرة سمية بنت الحسن، رئيسة مجلس أمناء جامعة الأميرة سمية للتكنولوجيا (PSUT) ورئيسة الجمعية العلمية الملكية (RSS)، عليّ تولي منصب رئيس جامعة الأميرة سمية. عندها أدركت أن هناك فرصة مميّزة وفريدة تنتظرني. مع هذه الفرصة الجديدة لن أعود لعائلتي الكبيرة ولوطني بعد غياب طويل في الغربة فقط، ولكنني كرئيس لمؤسسة رائدة للتعليم العالي مثل جامعة الأميرة سمية، سأحظى بفرصة نادرة بها يمكنني تطبيق الخبرة التي حصلت عليها من جامعة سنترال فلوريدا (UCF) لأصنع تغييرًا وفرقًا حقيقيًا. بالطبع، فإن عودتي للوطن وفرصة إحداث فرق لم تكن ممكنة لولا صاحبة السمو الملكي الأميرة سمية بنت الحسن. وإنني سأبقى مدينًا ما حييت لرؤيتها وقيادتها. فالتزامها بجعل الأردن مركزًا لريادة الأعمال والابتكار التكنولوجي وإيمانها الراسخ أن رأس المال البشري هو أعظم موارد الأردن، وأن مواهب الشباب هو مستقبلها كانت بالفعل مصدر إلهام. تركيزها المستمر في جامعة الأميرة سمية كان على التفوق والتميّز الأكاديمي والذي قادها إلى النجاحات الكثيرة التي جعلت كل فرد في المجتمع الجامعي فخورًا بها جدًا. ولا بد أن أقدّم الشكر والامتنان لجامعتي الأم، جامعة سنترال فلوريدا، حيث عملت كأستاذ في الهندسة الكهربائية، والتي وافقت على منحي إجازة عمل لمدّة أربع سنوات.
بالنسبة لي، كانت رحلة جامعة الأميرة سمية رحلة ممتعة ومثيرة، وفي بعض الأحيان كانت محفزّة ومثيرة للتفكير، وفي أحيان أخرى كانت مربكة. فمن الأمور البارزة التي أتذكّرها: عاينت شخصيًا كم المواهب والذكاء العالي الذي يتمتع به الشباب في الأردن، كما ورأيت آمال ورؤى الطلبة الشباب المفعمين بالحيوية والنشاط والذين يحلمون بمستقبل مشرق، وأدركت أن الأردن بلد مباركة بالمواهب والحماس والطاقة والمسقبل الواعد.
وكرئيس للجامعة فإنه يشرّفني وأفتخر بالفرصة التي أُتيحت لي بالعمل مع صاحبة السمو الملكي الأميرة سمية ومجلس أمناء جامعة الأميرة سمية الموقّر، ومع أعضاء هيئة التدريس والموظفين، وبالطبع مع الطلاب الذين كانوا مصدر إلهام لي بشغفهم وإبداعاتهم البارزة. ومن خلال علاقاتي في الجامعة تمكّنت من تكوين صداقات جديدة، وتوطيد الصداقات القديمة، وإقامة روابط أتمنى أن تدوم مع أشخاص رائعين قابلتهم وعملت معهم.
كرئيس للجماعة ومنذ اليوم الأول، تمسّكت بتوجيهات صاحبة السمو الملكي المبينة في رسالة تعييني في الجامعة والتي شكّلت هدفي الأساسي وهو: رفع مستوى البرامج التي تقدّمها جامعة الأميرة سمية وجودة هيئة التدريس والطلبة لتتناسب مع المعايير الدولية. وفي سعينا لهذه الغاية فإنني أعتقد أننا حققنا الكثير مما كنا نطمح له. عندما أنظر إلى الوراء، وأتذكّر السنوات التي مضت، فإنني أفتخر بقيادة صاحبة السمو الملكي وبمساعدة فريق جامعة الأميرة سمية، وتمكّنا من تحقيق الكثير مثل إدخال برامج جديدة (درجة البكالوريوس في التسويق الإلكتروني ووسائل الإعلام الاجتماعية، والطاقة الكهربائية وهندسة الطاقة، وهندسة البرمجيات، وهندسة أمن المعلومات والشبكات، والمحاسبة، ودرجة الماجستير في ريادة الأعمال، وأمن نظم المعلومات وعلم الجريمة الرقمية، ونظام المشاريع الهندسية)، وتمكّنا من صياغة استراتيجيات للتطور والنمو سواء لتوظيف أعضاء هيئة تدريس أو لاختيار طلاب ذوي جودة عالية، وتطوير معايير أفضل للقبول، والشروع بالعديد من اتفاقيات التبادل والتعاون، وتعزيز التركيز على البحوث (كذلك على مستوى درجة البكالوريوس)، واعتماد هيئة الاعتماد الأكاديمي الأميركية للهندسة والتكنولوجيا (ABET) لأربعة برامج لدرجة البكالوريوس، والشروع في عملية اعتماد هيئة الاعتماد الأكاديمي الدولي لبرامج كليات إدارة الأعمال (AACSB) ونعترف بفضل طلبتنا وأعضاء هيئة التدريس فهم مصدر فخر واعتزاز لنا بفوزهم في العديد من الجوائز وشهادات التقدير الدولية. وأخيرًا فإن جامعة الأميرة سمية هي أول جامعة أردنية تحصل على الدرجة الأولى من وسام الاستقلال للعام 2014 والذي مُنح لها من قبَل جلالة الملك عبد الله الثاني.
للأسف، فقد آن الأوان لعودتي وإكمال التزامي مع جامعة سنترال فلوريدا التي منحتني مشكورة تلك السنوات الأربعة من إجازة التطوير المهني. وإنني أبقى ممتنًا لجامعة سنترال فلوريدا لأنها أوصلتني لهذه التجربة الرائعة بالانتقال للسكن هنا في الأردن والتواصل مجدّدًا مع أصولي المتجذرة في وطني، كما ومنحت أبنائي الفرصة الرائعة لاستيعاب وفهم الثقافة الأردنية وتعلّم اللغة العربية.
إن سنوات خبرتي في جامعة سنترال فلوريدا أثبتت أنها فترة حاسمة وهامة في جلبها آفاق جديدة وربما نهج مختلف لجامعة الأميرة سمية. فمن خلال هذه السنوات حصلت على فرصة ممارسة القيادة الأكاديمية، وتطبيق أو محاولة تطبيق كل تلك العناصر التي تجعل النظام التعليمي في الولايات المتحدّة ناجحًا جدًا. ومع ذلك، وبالرغم من بعض الجوانب المشتركة، وكون معظم الأكاديميين في الأردن هم من خريجي جامعات الولايات المتحدة الأميركية ولهم خبرات مباشرة في ذلك النظام، إلا أنه لا تزال هناك هوّة تفصل ما بين المشهد التعليمي الأردني والأميركي. وهناك بلا شك بعض الأمور المشتركة كالهيكل التعليمي ونظام الساعات المعتمدة وغيرها، لأن النظام التعليمي الأردني يستند بشكل كبير على نظيره الأميركي. إلا إنني أرى أن الاختلافات بين النظامين تفوق التشابهات. فما زال نظام التعليم العالي في الأردن، مع أنه متقدّم بالمقارنة مع غيره في دول المنطقة، بحاجة إلى المزيد من التطوّر كي يتمكّن من منافسة البلدان البارزة في جودتها ومهارتها في التعليم.
خذ على سبيل المثال الإدارة، إنها عملية معقدة في الأردن وهي تتطلب في الواقع قدرًا كبيرًا من التدخل والمشاركة الأكاديمية الشخصية وغير الشخصية بالمقارنة مع الولايات المتحدّة، والتي تجد فيها أن السياسات والإجراءات جميعها في مكانها حيث تسهّل تطبيق الهيكل وتفرض الانضباط في النظام ككل. فالرئيس يلعب دورًا قيادياً هامًا ليس من خلال اتخاذ قرارات عشوائية ولكن من خلال القيادة والتنظيم والتنفيذ بالإجماع. يساعد الإطار الإداري الفعّال في تقدّم العمليات الإدارية دون الحاجة إلى تدخل المدير شخصيًا في كل خطوة من هذه العمليات، وخاصة في المسائل الإدارية الروتينية. فالضوابط والموازين الرقابية هي في مكانها وكل شخص مساءل بغض النظر عن منصبه أو لقبه.
للأسف، فالأمر لا ينطبق على المشهد المحلي، حيث ينظَر إلى الرئيس كشخص له سلطة مطلقة وقوة لإنجاز الأمور، ويعتمد الهيكل الإداري على قرارات الرئيس للتنفيذ بدلاً من العمل بشكل مستقل وباعتماد على الذات وكسند ودعم للإدارة العليا. إن التناقض المؤسف في هذا الوضع هو عندما يتخذ الرئيس قرارًا ما في بعض الظروف، تجد أن عملية تنفيذ القرار عملية تستغرق وقتًا طويلاً بسبب الشكليات والبيروقراطيات المطوّلة التي لا لزوم لها. وفي مثل وضعي أجد أن الأمر ينتهي باتخاذي نفس القرار عدّة مرات إلى أن يتم تنفيذه أخيرًا.
عقبة أخرى أمام الإدارة الفعّالة هي "الواسطة" وتعني التوسط الذي ينظَر له كاختصار لتحقيق الأهداف أو تحصيل الميّزات. وهي عادة شائعة ومقبولة شعبيًا، وفي الأردن تعتبر تقليدًا تقريبًا، ولكنني أجد صعوبة في قبولها. إنها آفة ببساطة لم أتمكّن من القضاء عليها. كسمة منتشرة في كل مكان في القطاع الأردني العام والخاص، فإنه ينظَر للواسطة كطريق مختصر نحو الوصول للأهداف التي عادة ما تتطلب عملاً جادًا وموهبة وجدارة وشفافية. لا تشجّع الواسطة الناس على قبول "كلا" كجواب لطلباتهم. كرئيس فإنه عليّ أن أعترف أن تعاملي مع ثقافة الواسطة كان أمرًا مستفزًا لي لأنني أشعر بأن قدرات وابتكارات الأردنيين يمكن أن تزدهر بشكل أكبر في جو يتسم بالعدل والمزيد من الحيادية وعندها يحصل كل من لديه مهارات وكفاءات وإمكانيات ومن يعمل بجد على الفرصة العادلة للنجاح.
إن أبرز وأهم ما في حياتي المهنية هم طلبتي الذين ألهموني بكل ما لديهم من إبداع وشغف والتزام نحو إحداث فرق وتغيير. مع مثل هؤلاء الشباب الذين سيتولّون مناصب قيادية يومًا ما فإنني أكون متفائلاً جدًا من نحو مستقبل الأردن. لقد تعلّمت منهم الكثير شخصيًا، وما زلت معجبًا بالطاقة الهائلة والحماس الذي يظهرونه. فهذا الجيل حصل على تعليم ومعلومات أفضل من الأجيال التي سبقته، وهم بارعون تكنولوجيًا، ويتمتعون بروح عالية من التنافس، وهم أكثر دراية وحساسية للتحدّيات الوطنية والعالمية، وأفضل في تواصلهم وعلاقاتهم، وفوق كل هذا هم أكثر اهتمامًا. كان تواصلي مع هؤلاء الطلبة فرصة تعلمية عظيمة، وإنني أغادر الأردن وأنا على ثقة أن هؤلاء القادة المستقبليين هم روّاد أذكياء يتحملّون المسؤولية وقادرون على اتخاذ قرارات صعبة، وما يحتاجونه منا هو الدعم والاحترام والتشجيع والعمل على تمكنيهم وتأهيلهم.
الأردن محظوظ بقيادته المتعلّمة والمتطوّرة والتي تنظر إلى التعليم العالي كأداة قوية لتمكين أهم موارد الأردن ألا وهي الموارد البشرية. كما إن تحفيز الأسرة الحاكمة المستمر لبناء الدولة وتحقيق الرخاء الاقتصادي لجميع الأردنيين بقي راسخًا على مدى سنوات. إن هذه الرؤية هي التي جلبت التوسع السريع في انتشار ونوعية التعليم.
إلا أن السؤال الذي أتصارع معه دائمًا هو "هل يسدّد نظامنا التعليمي العالي الاحتياجات الأكاديمية للشباب الأردنيين في قطاع التعليم الدولي الذي هو في تطوّر سريع؟ التعليم الجامعي اليوم ليس هو ما كان عليه منذ 20- 30 سنة مضت. لقد حدث تغيير كبير، وهو تحوّل جعل التعليم متاحًا للملايين من الأشخاص العاديين. وقد شهد قطاع التعليم تغييرًا وتطوّرًا مستمرًا في محاولة لتلبية الاحتياجات المحلية مع محاولة الحفاظ على المعايير الدولية. ولم يعد التعليم امتيازًا فقط للأقلية من النخبة أو الأغنياء، بل أصبح شائعًا ومتاحًا مع الكثيرين الذين يسعون للتعليم العالي كوسيلة للاستقلال الاقتصادي المستقبلي وللنجاح. ومن المعروف جيّدًا في المنطقة أن المجتمع الأردني وعلى مدى الثلاث إلى الأربع عقود الماضية قد انتقل من كونه، وإلى حد كبير، مجتمعًا زراعيًا ليكون مجتمعًا يركّز بشكل كبير على التعلم والتعليم. واليوم نجد أن التعليم من الروضة وحتى الصف الثاني عشر في الأردن ذات جودة عالية، مع التركيز المحدّد على العلوم الأساسية والرياضيات، إلا أن الأهمية المعطاة للحفظ ومعرفة الحقائق في المدارس ما زالت تحبط الابتكار والتفكير النقدي والتطبيق ومهارات التحليل.
شهد الأردن نموًا هائلاً في التعليم العالي خلال ثلاثة أو أربعة عقود، حيث تأسست أول الجامعات الحكومية في بداية الستينيات. بينما ينظّر لهذا التوجّه على أنه إيجابي بشكل عام، إلا أن الحافز المدفوع ثقافيًا في المملكة بإرسال أكبر قدر ممكن من خريجي المدارس إلى الجامعات قد وضع ضغوطًا على مواردها الشحيحة، وذلك بقبول كل تلك الأعداد المتزايدة من خريجي المدارس الثانوية في الجامعات كل عام. ونتيجة لذلك فإن الجامعات المحلية تكون مثقلة بتلك الأعداد الكبيرة من الطلبة. في العام 2014، يوجد 10 جامعات حكومية و22 جامعة خاصة وأكثر من 50 كلية مجتمع والتي تضم أكثر من 330 ألف طالب. وإنه لأمر طبيعي في بلد محدود الموارد كالأردن أن تواجه الإدارة الكفوءة وعملية تطوير قطاع التعليم تحدّيات عديدة.
وفي هذا الصدد فإن جامعة الأميرة سمية ليست المتقدّمة عن غيرها في المنطقة فقط بل على الصعيد الدولي كذلك، وهذا يظهر من خلال حصولنا مؤخرًا على اعتماد ABET لبعض برامجنا. بالرغم من أن هذا الاعتراف هو مصدر فخر لنا بأننا حققنا خطوات كبيرة للأمام، ولكننا لا نكتفي بما حققناه فقط. فالأردن في شوق لقصص النجاح في التعليم العالي، ولجامعة الأميرة سمية العديد من هذه القصص بين صفوف طلبتها. ولكن ما زال هناك الكثير ليعمَل، والطريق أمامنا طويل وشاق. علاقتي الوثيقة مع التعليم العالي الأردني على مدى السنوات الأربعة الماضية، والتفاعل الوثيق مع مؤيديه، والمشاركة في أنشطته أتاحت لي رؤية نجاحاته وعوائقه.
أولاً، حوكمة الجامعة بحاجة إلى إعادة نظر جادة لأنني أعتقد أن تقدّم أو سقوط المؤسسة وسمعتها في أي نظام يعتمد أساسًا على قيادتها. وإنني أؤمن أن أصعب القضايا في الجامعات هي متأصّلة في الحوكمة. لذا فلا يجب أن تقرّر السياسات والتآلفات الشخصية اختيار منصب رئاسة الجامعة لأن ذلك سيؤدي إلى تعيينات غير مناسبة أو غير مؤهلة. في الحقيقة، معظم المشاكل في إدارة الجامعات تأتي من التعيينات المسيّسة. وعلى رؤساء الجامعات التركيز أكثر على القضايا المتعلّقة بالتنمية كالشراكة مع الصناعة، والتمويل، وتوكيد الجودة، وتطوير برامج أكاديمية جديدة وهلّم جرًا. للأسف، في الوقت الحالي يتصرّف الرئيس كعميد أو نائب رئيس مع التركيز على القضايا الروتينية مثل المحتوى الأكاديمي لبرامج معيّنة والإدارة العامة بدلاً من القضايا التنموية. كما إن الكثير من الوقت والالتزام يتم تخصيصهم للعلاقات العامة والأنشطة الاحتفالية.
ثم هناك أسلوب الإدارة من الأعلى إلى الأسفل في إدارة الجامعة، حيث يكون المدير في قمة الهرم، والذي هو بحاجة لإعادة النظر. لهذا الأسلوب بعض العيوب المحدّدة. فعلى سبيل المثال، يمكنه أن يردع أعضاء الهيئة التدريسية أصحاب الكفاءات أو الموظفين الإداريين من القيام بدور فعّال في إدارة وتنظيم المؤسسة لأنهم غير مخوّلين لاتخاذ قرارات مستقلة والتصرّف بناء عليها. ولأن مثل عدم التمكين هذا قد يؤدي كذلك إلى ضعف أداء الموظفين الذين يجب عليهم الالتزام بالسياسات التي لم يشاركوا هم أنفسهم في صياغتها. لذا فإنني أميل، كما هو الحال في جامعة الأميرة سمية، إلى تفضيل الدور اللامركزي للقيادة والإدارة العليا، والذي يدعمه نظام حوكمة تشاركي وشامل مبني على أساس المسؤولية والمساءلة. وإن العملية اللامركزية في اتخاذ القرارات والتي تهدف لتطوير التفوق التعليمي والبحثي لا يمكن الاستغناء عنها لتحقيق نظام تعليمي عالٍ يتميّز بجودة عالية.
مجال آخر بحاجة إلى إعادة النظر هو الطريقة التي يتم بها صياغة وتعزيز سياسات واستراتيجيات التعليم. تم إحراز الكثير من التقدّم على مدى السنوات الماضية في وضع الاستراتيجيات وإعادة وضع الاستراتيجيات. لقد انخرطت شخصيًا في العديد من المناقشات الاستراتيجية وتم اتخاذ قرارات التي لو تم تنفيذها جزئيًا فستكون مفيدة. ركّز النقاش في السنوات الأخيرة على استراتيجيات تحسين الحوكمة وسياسات القبول ومبادرات التمويل وجودة تنفيذ التعليم وبرامج الاعتماد. إلا أنه لم يُعمَل ما يكفي لضمان المتابعة المنتظمة وتنفيذ الاستراتيجيات والقرارات التي، على الرغم من أنها رائعة على الورق، ولكنها لا تعني أي شيء إن لم يتم العمل بها.
منذ الثمانينيات تم إصدار قوانين ولوائح التعليم العالي بشكل منتظم، وتم تعيين أعضاء المجالس (مجلس التعليم العالي)، وتم تأسيس هيئات الاعتماد (لجنة الاعتماد للتعليم العالي)، وتم وضع الخطط الاستراتيجية، كما وتم إنشاء نظام للتصنيف (في عام 2010). إلا أن العديد من هذه القوانين والسياسات إما تبقى غير فعّالة بسبب بطء تنفيذها، أو الأسوأ من ذلك وهو عدم تنفيذها بتاتًا. دور التعليم العالي قد تحوّل بانتظام من السياسات والتوجيهات ذات المستوى العالي إلى صنع القرارات ذات المستوى المنخفض. وحيث أن التعليم العالي في تقدّم سريع في جميع أنحاء العالم، فإن بطء تنفيذ السياسات أو عدم تنفيذها يمكن أن يترجم إلى عدم إحراز تقدّم، أو الأسوأ من ذلك تدهور غير مرغوب به في الجودة.
وتبقى هناك مشاكل أخرى مثل عدم وجود أو عدم كفاية اختبارات ومعايير القبول (اعترفت جامعة الأميرة سمية بهذا النقص، فقامت بإدخال اختبارات للقبول في محاولة لجذب الطلاب المتفوقين)، والافتقار للاستراتيجيات الجامعية المتماسكة طويلة المدى بسبب نقص الموارد، وبطء أو عدم تنفيذ الخطط الاستراتيجية ومعايير ضمان الجودة، وعدم إعطاء الأولوية للبحوث مقابل التعليم، والبيروقراطية الكبيرة التي تخنق الإبداع والمبادرة، ودور وزارة التعليم العالي والبحث العلمي المركزي للغاية الذي يحدّ من الريادة والابتكار، والافتقار للسياسات التي تدعم خلق فرص للخريجين، وتغييرات القيادة المستمرة التي تعيق استمرارية الخطط الاستراتيجية طويلة الأجل.
مع زيادة الطلب على التعليم العالي والذي تجاوز العرض، فقد تقدّمت الجامعات الخاصة لحلّ الكثير من المشاكل والقضايا العالقة من خلال منح الشباب البدائل للجامعات الحكومية. وبعد حوالي الربع قرن، نجد أن هناك حاجة لإعادة النظر في خبرة الأردن في مجال التعليم العالي. فهناك الكثير من التركيز على الربح في المؤسسات الخاصة، مما أدى إلى الوضع الذي فيه يوجد عدد قليل فقط من الجامعات التي تهدف للربح وقادرة على تقديم تعليم ذات جودة. فبدون وجود إطار عمل قوي لضمان الجودة، فإنه يبقى الكثير من الأمور غير المرغوبة في مثل هذا النوع من البرامج المقدّمة. ويكمن الحل في أن تلتزم كل من الجامعات الحكومية والخاصة بمعايير ضمان الجودة الممتازة التي يتم اعتمادها بدقة، جنبًا إلى جنب مع نظام تصنيف وطني جيّد يستند إلى نفس المعايير التي تستند عليها أفضل جامعات العالم.
خطوة أخرى هامة يمكن أن تحسّن من مستوى الجامعات الخاصة هي اتباع النموذج التركي، والذي ينصّ أنه وبموجب القانون لا يمكن تسجيل الجامعات مباشرة أو غير مباشرة كمؤسسات ربحية، ويجب أن تتأسّس كجامعات تآلف أساسية. إن هذا النموذج سيساعد الجامعات في الوصول لأهدافها من التفوق الأكاديمي لأنهم لا يعتبرون أنفسهم من مؤسسات الأعمال التي من المتوقع أن تحقق أرباحًا. وقد أظهرت الدراسات في جميع أنحاء العالم، بما فيها الولايات المتحدة الأميركية، أنه عندما تتأسس الجامعة بناء على نموذج الأعمال وتسعى لكسب المال فقط، فإن نوعية التعليم فيها سوف تهبط.
أولاً، بالنسبة للمؤسسات الربحية التي تعتمد بشكل كامل على رسوم الطلبة لتغطية جميع العمليات في الجامعة، بما في ذلك تطوير البرامج الأكاديمية الحديثة والمختبرات، ورفع مستوى البنية التحتية، وتحسين هيئة التدريس والموظفين ونوعية البرامج، والصيانة والتوسع وجميع الأنشطة الأخرى اللازمة لإدارة وإدامة جامعة من الدرجة الأولى. فبعد كل هذه المصاريف الاساسية فإنه يفترض أن يكون هناك هامش ربح للمالكين. من الواضح أنه يستحيل على مثل هذا النظام المالي أن ينجح.
ثانيًا، حيث أن الجامعات الخاصة هي تحت ضغط لجذب أكبر قدر ممكن من الطلبة الجدد وعدم فقدان طلبتها الحاليين، فهناك الحاجة لمكافأة المتفوقين كي يشعر الطلبة أن الأمر يستحق هذه المصاريف. وإن خسائر هذه العملية التعليمية القائمة بشكل كامل على الربح هي الجودة، وهذا يعني تدهور جودة البرامج وكذلك الخريجين الذين، على الرغم من حصولهم على درجات جامعية، فهم غير مؤهلين وغير جاهزين لسوق العمل.
أعتقد أنه على الجامعات الخاصة مثل جامعة الأميرة سمية أن تبقى مؤسسة غير ربحية وتحذو حذو نظرائها الأتراك، كي تتمكّن من التركيز على التفوق الأكاديمي بدلاً من التركيز على الميزانية العمومية. يجب أن تغطي رسوم الطلبة جزءًا من التكاليف التشغيلية للجامعة، مثلاً 50% من التكاليف، إلا أن بقية المصاريف تسدّد من التبرعات والتمويل الخاص والصناعات ورأس المال المعرفي وابتكارات هيئة التدريس والطلبة. إن كان هذا النموذج قد نجح في تركيا، فليس هناك أي سبب لا يجعله ينجح هنا كذلك، وخاصة أن جميع العناصر الأساسية اللازمة موجودة. هناك دروس يمكن أن نتعلّمها من الولايات المتحدة الأميركية كذلك، حيث الجامعات عالية الجودة والمرموقة هي جامعات خاصة.
ومع ذلك فإنه لا يمكن إنكار أن التعليم العالي الأردني، برغم من نقاط ضعفه، قد قطع شوطًا طويلاً خلال فترة قصيرة مدّتها 3- 4 عقود. العديد من البرامج هي مماثلة لتلك البرامج التي تقدّمها الجامعات الأوروبية والأميركية الجيّدة، وخاصة في العلوم والهندسة وعلوم الحاسوب. كما إن الطلبة الخريجين في هذه المجالات قد أثبتوا أنهم يقفون جنبًا إلى جنب مع أفضل المهنيين في الغرب. لم تدخر وزارة التعليم العالي أي جهد في تعزيز العلاقات من خلال توقيع اتفاقيات ثنائية ومتعدّدة الأطراف مع أفضل كيانات التعليم العالي الأوروبية والأميريكة. وقد تم إحراز العديد من مشاريع التنمية التعليمية على مدى سنوات مثل مشروع تطوير التعليم العالي (HEDP)، بالتعاون مع البنك الدولي، وبرنامج تمبوس الأوروبي ومشاريع إيراسموس موندوس. وقد ساعد إنشاء صندوق دعم البحث العلمي (SRSF) في تحفيز البحوث من قبل العلماء الأردنيين. وقد تم وضع معايير الاعتماد، وفي عام 2010 تم وضع نظام لتصنيف الجامعات الوطنية.
تحتل الأردن مرتبة عالية كأمة في تقدّم وتوازن جندري في نظام التعليم العالي بالمقارنة مع العديد من الدول في المنطقة. يتمتّع الذكور والإناث بفرص متكافئة في الجامعات حيث يتم قبولهم بالاعتماد على أسس جدارتهم فقط. وفي جامعة الأميرة سمية أفتخر بأن أشير إلى أن حوالي نصف الطلبة في كليات الهندسة وعلوم الحاسوب هم من الإناث.
باختصار، على الرغم من موارده الطبيعية المحدودة جدًا، فإن الأردن قد تحوّل إلى مجتمع معرفة متنامي ينظر له الكثيرون في المنطقة كنموذج للتميّز في التعليم العالي. وقد كانت صاحبة السمو الملكي الأميرة سمية على حق تمامًا عندما أشارت أن فرصة الأردن الكبرى تكمن في الريادة والابتكار، وخاصة إن كانت متأصّلة في طلبتنا وخريجينا. نحن بحاجة إلى جيل جديد من الخريجين الذين يفكّرون البدء بأعمالهم الخاصة بدلاً من البحث عن وظائف. وما زالت العوائق كثيرة، فثقافيًا لا يمكننا قبول الفشل في العمل، ونحن لا نثق بالقطاع الخاص، وفوق كل هذا نفتقر للمهارة المنهجية لتحويل الأفكار إلى منتجات منافسة. لحسن الحظ فقد أحرز الأردن تقدّمًا منتظمًا وكبيرًا في هذا الاتجاه، ونحن نشهد تحوّلاً تدريجيًا ولكن ملموسًا في الفكر المحلي من نحو التركيز المتزايد على الريادة والابتكار.
أعتقد أنه وخلال السنوات الخمسة إلى العشرة القادمة، سيكون هناك زيادة في التركيز على الكيف وليس الكم في العديد من مؤسسات التعليم العالي لدينا. هذا ليس خيارًا ولكنه ضرورة للبقاء. ولكن جهودنا وسمعتنا لا يمكنها إنكار حقيقة أن الطريق أمامنا ما زال طويلًا قبل أن نحقق الأهداف الرئيسة للتعليم العالي:
- العمل المربح.
- الرغبة بحياة عمادها التعلّم المستمر والبحث ومناقشة الأفكار.
- الفضول والفطنة.
- تطوير القدرات والإمكانيات.
- مساهمة إيجابية وبناءة للمجتمع والأمة.
- المساهمة في بناء مجتمع صحي ومزدهر ومبدع وأخلاقي.
- الاكتفاء الشخصي.
كشخص دائم التفاؤل، فإنني أعتقد أنه بالمثابرة والجهد يمكننا تحقيق أهدافنا ويمكننا أن نكون أمة تزرع المعرفة وترعاها وتطوّرها باعتبارها المورد الثمين الذي يثري حياة كل مواطن أردني.
والآن، بينما أغادر الأردن، ودون غياب ذلك الشعور من الحنين والحزن لأنه ومرة أخرى سيفصلني عن الكثير من الزملاء والأصدقاء والعائلة مسافات بعيدة. بينما أغادر، فإن التزامي من نحو تطوير جامعة الأميرة سمية ونمو الاردن هو أقوى. مرّة أخرى فإنني ممتن لصاحبة السمو الملكي الأمير سمية وجامعة سنترال فلوريدا على الفرصة الرائعة التي أصبحت واقعًا بالنسبة لي.

اضف تعليقك

Plain text

  • No HTML tags allowed.
  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Lines and paragraphs break automatically.
Image CAPTCHA
أدخل الحروف التي تظهر بالصورة (بدون فراغات)