طلبه نيوز
لا شك ان البنوك العربية قد تأقلمت مع واقع العمل في منطقة مثقلة بالاضطرابات السياسية على مر تاريخها، الا ان حالة عدم اليقين والضبابية السياسية ما زالت آخذة في التصاعد خلال الفترة المقبلة، بموازاة تحديات عالمية لا تقل تعقيداً. لكن على الرغم من هذا الواقع المحفوف بالمخاطر والتحديات، فان الموارد الغنية للاقتصادات الخليجية والتركيبة الديموغرافية للاسواق العربية توفران جملة من الفرص للبنوك العربية.
في الواقع، لم يمنع الاضطراب السياسي المتزايد في ظل الربيع العربي من ان تشهد البنوك العربية انتعاشاً ونمواً في نشاط اعمالها خلال العام 2012. وذلك لم يقتصر فقط على الاسواق الخليجية التي تستفيد من الانفاق الحكومي، بل امتد الى اسواق عربية اخرى. لقد شكل العام 2012 حقيقة عام التعافي بالنسبة الى البنوك العربية، ولو بدرجات متفاوتة فعلى الرغم من استمرار الازمة المالية العالمية وتداعياتها على المنطقة، وما تبعها لاحقاً من احداث سياسية، استمرت البنوك العربية بتحقيق الارباح خلال العام، وواصلت موجوداتها النمو بوتيرة صحية، ولو ان العائد على حقوق المساهمين ما زال دون مستوياته ما قبل الازمة. ومن المتوقع ان تواصل البنوك العربية التعافي والنمو خلال العام 2014، مستفيدة من تحسن الآفاق الاقتصادية والتوجهات الهيكلية الداعمة، رغم استمرار التحديات وتزايد المخاطر.
نمو اقتصادي قوي
بشكل عام، كانت المنطقة العربية بمنأى عن التأثير المباشر للازمة العالمية، لكنها تأثرت بتباطؤ النمو الاقتصادي العالمي وتدهور مستويات الثقة في الاسواق العالمية. ومنذ العام 2008، نجحت الدول التي لم تتأثر بالربيع العربي من تحقيق انتعاش قوي على الرغم من معاناة القطاع المصرفي في عمومها بتراجع جودة الاصول وحجم المديونيات الضخمة. كما استطاعت اقتصادات دول الربيع العربي ان تحقق بدورها نمواً موجباً، وهو ما يشير الى قدرتها على التعافي والنمو بوتيرة أسرع مع استقرار الوضع السياسي.
وبالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي بشكل خاص، فقد حققت نمواً قوياً متمتعة بفوائض مالية وخارجية ضخمة، مما ساعدها على زيادة الانفاق الحكومي وتعزيز استثماراتها. ولا شك ان ارتفاع اسعار النفط قد وفر دعماً قوياً للمالية العامة للدول الخليجية ومكنها من زيادة الانفاق الرأسمالي، وهو ما تعكسه قيمة المشاريع قيد التخطيط او التنفيذ حالياً، والتي تقدر بنحو 2.5 تريليون دولار. وهذا المركز المالي القوي للدول الخليجية يوفر دعماً حيوياً لبنوكها، ويضمن لها الاستقرار والنمو القوي حتى في حال شهدت اسعار النفط تقلبات طفيفة عن مستوياتها الحالية. ومن هذا المنطلق، يتوقع ان تواصل الاقتصادات الخليجية اداءها القوي في العام 2014 والاعوام اللاحقة.
اما الاقتصادات غير النفطية، فستستمر بالاستفادة من الاستثمارات الخليجية وانعكاس السياسات الانفاقية لدول الخليج على الدول المجاورة. كما انها قد تستفيد ايضاً من الدعم الرسمي من قبل الدول النفطية والتي بدأت بضخ مبالغ مالية ضخمة على شكل استثمارات وقروض. ولا شك ان مزيداً من الدعم على شكل خطة مارشال عربية من شأنه ان يعزز الاستقرار الاقتصادي للدول غير النفطية ويحفز نموها.
توجهات داعمة
الى جانب النمو الاقتصادي، قد تستفيد البنوك العربية كذلك من مجموعة من التوجهات والعوامل الهيكلية الايجابية. فالتركيبة الديموغرافية للدول العربية تساهم في تحفيز النمو الاقتصادي وفي زيادة الطلب على الخدمات المصرفية. فواقع ان الشباب يشكلون الشريحة الأكبر من السكان، وان الاسواق العربية ما زالت غير مكتفية او غير مشبعة مصرفياً، من شأنه ان يوفر للبنوك العربية مجالاً واسعاً لتحقيق نمو مستدام. لكن ذلك مرهون من دون شك بقدرة الدول العربية على توفير فرص العمل في ظل النمو السكاني المطرد، خاصة وان المؤشرات الديوغرافية تشير الى ان اكثر من 50 ٪ من السكان هم دون سن الثلاثين. ومن المهم الاشارة هنا الى ان توفير فرص العمل يعتمد بشكل كبير على اجراء اصلاحات هيكلية، وذلك يستغرق وقتاً.
ومن جهة ثانية، بدأت البنوك مؤخراً بالاستفادة من التطورات التكنولوجية، فالابتكارات الجديدة في عالم التكنولوجيا قد دفعت البنوك الى تطوير سبل التعامل مع عملائها وطرح المنتجات والخدمات لهم. وهذا التطور يحفز البنوك على المنافسة في طريقة طرح خدماتها، وقد ظهر هذا جلياً في الخدمات المصرفية من خلال الانترنت والهواتف الذكية. ومما لا شك فيه ان مواكبة هذا التطور التكنولوجي وتطبيقه يتطلب من البنوك الاستثمار في انظمتها التقنية وتطويرها، بالاضافة الى كفاءات بشرية قادرة على الابتكار. وعلى الرغم من سعيها في هذا الاطار، تبقى البنوك العربية بطيئة نسبياً في مواكبة هذا التطور بسبب ضعف البنى التحتية في العديد من دول الشرق الاوسط وشمال افريقيا. إلا ان ذلك لا يخفي الفرص التي يتيحها تطور الخدمات المصرفية في الاسواق العربية.
تحديات ومخاطر
ان العوامل الداعمة للبنوك العربية من آفاق اقتصادية وتوجهات ايجابية، يقابلها مجموعة من التحديات والمخاطر على الساحتين الاقليمية والعالمية. في الواقع، تواجه اقتصادات المنطقة تحديات تفوق طاقتها، لا سيما انها واصلت مواجهة المزيد من تداعيات الربيع العربي. ورغم ان مطالب التغيير التي خرجت بقوة في العام 2011 بدأ يخفت صوتها تدريجياً، وان المؤسسات قد استطاعت في الواقع اداء اعمالها المعتادة في معظم الدول التي شهدت ولادة انظمة جديدة، الا ان عدم الاستقرار السياسي يبقى في ابرز التحديات التي تواجه البنوك العربية.
لكن هذه التحديات لا تتوقف عند الاضطرابات السياسية ولن تنتهي مع انتهائها. فهناك تحديات جوهرية ستبقى ماثلة امام دول المنطقة، ابرزها «الديمقراطية الناقصة» التي انعكست من خلال التحرك الشعبي للمطالبة بالعدالة الاجتماعية. وحتى لو هدأت الاضطرابات، فإن التغيير السياسي يشكل من دون شك فرصة حقيقية لتطبيق الحوكمة على نحو اعمق، والتحول بشكل تدريجي، ولو بطيء، الى نظام اكثر عدالة ومواساة.
ومن ابرز التحديات الجوهرية التي تواجه منطقتنا ايضاً هو ضعف القطاع الخاص، في ظل البيئة التشغيلية الصعبة التي تتسم بها معظم دول المنطقة، ولو بدرجة متفاوتة، وهذا من شأنه ان يقوض الجهود لتوفير فرص العمل للشباب. ففي ظل غياب قطاع خاص ديناميكي وفعال، لن تتمكن دول المنطقة، وحتى الدول الخليجية منها، من تحقيق نمو اقتصادي مستدام في الاجل الطويل. لا شك ان بعض الدول تقوم بمساع اصلاحية لتحسين بيئة الاعمال لديها، لكن هذه الاصلاحات تسير ببطء عموماً.
والى جانب عدم الاستقرار والنقص في الديمقراطية وضعف القطاع الخاص وتقويض دوره، تواجه البنوك العربية عموماً تحديات تتعلق بجودة اصولها التي تأذت بفعل الأزمة العالمية. لقد اضطرت البنوك خلال الاعوام الماضية الى تجنيد الكثير من المخصصات لتغطية القروض المتعثرة، ورغم ان هذا المنحى كان عاماً في مختلف الاسواق العربية، الا ان انعكاسه على البنوك لم يكن متشابهاً، ففيما تجاوزت البنوك الخليجية - بشكل عام - مسألة جودة الاصول، فقد تواجه البنوك في الاقتصادات الانتقالية تزايداً في القروض المتعثرة في حال لم يتعاف النمو الاقتصادي بوتيرة اسرع او لم يستقر الوضع السياسي. لكن على الرغم من ذلك، تتمتع البنوك العربية برسملة جديدة عموماً، وهذا سياساعد على مواجهة التحديات والاخطار.
تحديات وفرص عالمية
على الساحة العالمية، تبدو المخاطر ايضاً ماثلة، وسترخي بظلالها من دون شك على اقتصادات المنطقة، فاحتمال ان تشهد الاقتصادات المتقدمة المزيد من التباطؤ نتيجة تفاقم الازمة في اوروبا والسياسات التقشفية الجديدة في الولايات المتحدة الاميركية، يفرض تحديات اضافية على المنطقة وبيئة الاعمال فيها، ولا سيما من بوابة اسعار النفط والاضطرابات المالية.
في الواقع، لقد استطاعت دول الخليج ان تتأقلم مع الوضع العالمي الجديد في مرحلة ما بعد الازمة، والمعطيات الجديدة التي فرضتها، ومن ابرز هذه المعطيات، النمو الاقتصادي الضعيف في الاقتصادات المتقدمة وتزايد دور الاسواق الناشئة على المستوى العالمي. وفي ظل كهذا بيئة حيث تلعب الحكومات دوراً اكبر على الساحة الاقتصادية والبنوك تسعى الى خفض انكشافاتها وحجم مديونياتها، فإن البنوك ذات الرسملة الافضل والصناديق السيادية الاقل استدانة هي من سيكون محرك النمو. وهذه المعطيات توفر في الواقع فرصاً للمصارف العربية. فالتحديات التي تواجه البنوك الاوروبية ومتطلبات بازل 3 الجديدة من شأنها ان تزيد من تنافسية المصارف العربية وتوفر لها فرصاً جديدة. وقد رأينا بالفعل العديد من البنوك العالمية تنسحب من المنطقة او تحد انكشافها عليها، ولا سيما في سوق تمويل المشاريع، وهذه من ابرز المجالات المتاحة امام البنوك الاقليمية.
كما ان ارتفاع الطلب على النفط من دول مثل الصين والهند والشرق الاوسط يوفر فرصة لدول الخليج لرفع انتاجها والتوجه اكثر نحو الشرق. فعلى الرغم من زيادة الانتاج الاميركي والتطور التقني الذي يشهده، إلا ان الحديث عن ان الولايات المتحدة الاميركية باتت أقل اعتماداً على النفط من الشرق الاوسط فيه بعض من المبالغة، وفي رأيي، ستبٍقى الاقتصادات المتقدمة والاقتصادات الناشئة معتمدة على النفط الخليجي، وهذا من شأنه ان يدعم الآفاق الاقتصادية لدول المنطقة في الخلاصة، لقد سجلت البنوك العربية عموماً اداء جيداً خلال العام 2012، ويتوقع ان تواصل تعافيها خلال العام المقبل، فعلى الرغم من البيئة التشغيلية الصعبة والتحديات الاقتصادية والسياسية، سجلت البنوك العربية تحسناً في نشاطها ومستوى ربحيتها، وتبقى البنوك الخليجية في موقع افضل من نظيرتها العربية مستفيدة من ارتفاع اسعار النفط والاستقرار السياسي. لكن التحديات الاقليمية والعالمية ما زالت مائلة امامنا ولن تستثني احداً. علينا أن نكون جميعاً مستعدين لها.
اضف تعليقك