TLB News (طلبة نيوز للإعلام الحر)
العشائرية وتفاقم العنف داخل الجامعات الأردنية
17/10/2025 - 3:15pm

أ.د. محمد صايل الزيود
عميد كلية العلوم التربوية، الجامعة الأردنية
تستمرّ ظاهرةُ العنف الجامعي بإطلالتها المؤسفة علينا دون انقطاعٍ حقيقي في الجامعات الأردنية، بصورةٍ تُسيء إلى الأردن وصورته الحضارية التي يسعى الجميع لترسيخها عبر مختلف الوسائل والأدوات، في عالمٍ يتسابق فيه الآخرون نحو الإبداع والابتكار والريادة ومواكبة ثورة الذكاء الاصطناعي، بينما يتسابق بعض طلبة الجامعات من أبناء العشائر لتسويةِ اختلافٍ في الرأي بالعنف المادي، المتمثّل بالضرب والتخريب والتكسير، بل وقد يصل الأمر إلى محاولة تصفية الآخر أو التسبّب له بإعاقةٍ بالغة.
لقد تواجدتُ بالأمس، ولمدة قاربت ثلاث ساعات، برفقة عددٍ من الزملاء العمداء ومديري الوحدات الإدارية في الجامعة، للتعامل مع مشهدٍ متجدّدٍ مسيءٍ ومحزنٍ لعنفٍ جامعيٍّ غير أخلاقي، وقع بين أبناء مجتمعٍ واحدٍ يعيش أفراده على المودة والاحترام، وكانوا على الدوام جزءًا أصيلًا من مسيرة هذا الوطن الحضارية.
تحدثنا بالأمس مع الطلبة الذين كانوا جزءًا من الحدث المؤسف، وكانت الصدمة أن لديهم قناعةً تامةً بصحة ما قاموا به، غير آبهين بسمعة الجامعة، ولا بسمعة عشائرهم، ولا بسمعة الأردن؛ الوطن الذي هيّأ لهم المؤسسات والموارد والمقدّرات ليسلكوا السلوك الحضاري والإنساني. والصدمة الأخرى أنّ غالبيتهم العظمى التحقوا بالجامعة حديثًا، وأعمارهم لم تتجاوز العشرين عامًا، ومع ذلك أبدَوا تعنّتًا غير مسبوقٍ في الرأي الخاطئ والممارسة الخاطئة والسلوك المسيء، مع غيابٍ شبه تامٍّ لمهارات التواصل مع الآخر والاستماع إلى الرأي المختلف.
لقد لمستُ بالأمس أننا أمام جيلٍ بعقليةٍ من عالمٍ آخر؛ عقليةٍ لا تقبل الرأي ولا الرأي الآخر، لا تسمع، ولا تحترم، ولا تتقبّل. ولمستُ اليوم، بعد مشاهدةٍ حيّةٍ لمصلٍّ يركن سيارته أمام المسجد فيغلق الشارع تمامًا، تاركًا خلفه مئات السيارات تنتظر خروجه “الميمون” من المسجد لفتح الطريق، في سلوكٍ استفزازيٍّ يولّد العنف والعنف المضاد. ونحن نلمس يوميًا عشرات السلوكيات التي تستفزّ الجميع، فتدفعهم إلى ممارسة العنف ضدّ بعضهم أو ضدّ الممتلكات والمقدّرات الوطنية. إننا نشهد يوميًا ممارساتٍ عنيفةً تمثّل اعتداءً صارخًا على الإنسان والمكان.
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن: كيف وصل هذا الجيل، أو هذه الفئة، أو حتى هذا المجتمع، إلى هذا الحال الذي لا يسرّ أحدًا؟
ولعلّ الإجابة التي علينا أن نتقبّلها أنّنا شخّصنا ظاهرة العنف المجتمعي والعنف الجامعي بخجلٍ وعمومية، دون أن نلتفت بجدٍّ إلى الأسباب الحقيقية التي تقف خلفها. ولعلّ أبرز تلك الأسباب هو الطابع الشكلي في المعالجة، وفي مقدمتها إصرار البعض على استثناء أو نفي دور العائلة والعشيرة والمنطقة كأحد الأسباب المباشرة، خوفًا أو مجاملةً أو حفاظًا على العلاقات الاجتماعية. لقد أظهر حديث الطلبة بالأمس تعصّبًا غير مسبوقٍ لعشائرهم، واعتقادًا راسخًا بأنّه لا صوت يعلو فوق صوت العشيرة، وأنّ السبيل الوحيد للتعامل مع من يختلف معهم هو العنف المفرط، لا الحوار ولا التفاهم.
إنّ العنف المجتمعي والجامعي هو وليدُ بيئةٍ أسريةٍ وعشائريةٍ ومناطقيةٍ لم تنجح بعدُ التنشئةُ التربوية والمجتمعية في معالجتها، رغم مئات المبادرات التي أطلقتها مؤسساتٌ وجهاتٌ عديدة، لكنها اقتصرت على بيئاتٍ خاطئةٍ لا تعاني أصلًا من هذه الآفة الخطِرة التي باتت تهدّد نسيجنا الاجتماعي.
وما شهدناه بالأمس يؤكّد أننا لم نصل بعدُ تربويًا إلى تلك الفئات المجتمعية التي تحمل عقليةً تؤمن بالعنف والسيطرة، ولا تبالي بسيادة القانون أو بأساليب التواصل الحضاري، على الرغم من معرفتنا بهذه الفئات وبيئاتها بدقّة، ومع ذلك لم نصل إليها بالعمق والفاعلية المطلوبة.
إنّ العنف الذي يُمارَس اليوم تقف خلفه عشرات الأسباب المعروفة والمحدّدة، التي يجب أن تُعالج بالحلول الناجعة، وأن تُستثمر الطاقات المؤسسية المعنية ببناء الإنسان لمعالجتها بصورةٍ تربويةٍ منظّمةٍ ومستمرة. إنّ الوقفة الحقيقية أمام هذه الظاهرة تتطلّب أن تُسنَد مهمةُ التربية والتنشئة والإصلاح والتأهيل للإنسان الأردني في هذه البيئات إلى جهودٍ مؤسسيةٍ موجّهةٍ ومتكاملة، من مختلف الجهات، وعلى رأسها وزارة الأوقاف بمساجدها ومراكزها، ووزارة التربية والتعليم بمدارسها، ووزارة الثقافة، ووزارة الشباب، والجامعات.
نحن اليوم بأمسّ الحاجة إلى أن نتجاوز مرحلة التشخيص ووصف الأسباب والمسبّبات، إلى مرحلة العمل الحقيقي المنظّم من خلال خططٍ وبرامج مستمرة، تُوجَّه إلى أبناء مناطق وبيئات محدّدة، لبناء عقلياتٍ وذهنياتٍ حضاريةٍ تؤمن بالآخر، وتؤمن بالحوار البنّاء، وتتقبّل الاختلاف، وتؤمن بسيادةٍ مطلقةٍ للقانون ودولةِ القانون والمؤسسات الراسخة، وتدرك أن العشيرة والعائلة كيانٌ اجتماعيٌّ يجمع ولا يُفرّق، ويعزّز روح الانتماء لا التعصّب، والوحدة لا التناحر.

اضف تعليقك

Plain text

  • No HTML tags allowed.
  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Lines and paragraphs break automatically.
Image CAPTCHA
أدخل الحروف التي تظهر بالصورة (بدون فراغات)