TLB News (طلبة نيوز للإعلام الحر)
النوابُ ثلاثةٌ رابعُهُمْ كبيرُهُمُ المُعَمَّرُ
06/12/2019 - 5:30pm

يُفترضُ أن مجلسَ النوابِ بيتٌ للشعبِ ، ورِواقٌ للحكمة السياسية ودارٌ ينتدي فيها أهلُ الحَلِّ والمشورة، وحِصنٌ مُحصَّنٌ لذوي الرأي والخبرة في التشريع ومحاسبة السلطة التنفيذية وتقويم أيِّ انحراف منها عن موجبات القانون والتعليمات النافذة ؛ لأنه نتاج الرأي العام في القضايا الوطنية والإقليمية والعالمية وهذا معنى الديموقراطية بروحها وشكلها وحلوها ومرها ، تتساوى في ذلك الدولُ العظمى والصغرى ، ونقيضها دكتاتورية تُفضي إلى خَلْخَلَةِ قواعدِ الدولة وسيادة الفوضى ولو بعد حين ، لذا يُسَمَّى النائبُ نائبَ أمة أو وطن ، ولن يتحقق ذلك إلا بانتخاب حقيقي، فلا يستطيع متابع أن يشكك بصدقية الانتخابات الأمريكية أو البريطانية أو الكندية أو الفرنسية مثلا، فالصوت هناك مقدس لأن المواطن هو من يرسم بوعيه مستقبلَ الأمةِ بعد أن قرَّت أسسُ الحياة السياسية واقعًا مُعَايَنًا منذ أزمنة جُرِّبَت فيها كلُ فنونِ الحكم . 
أما في الوطن الغالي فالنوابُ - غالبًا - ثلاثُ طوائفَ رابعُهم ذلك المُعَمَّرُ الذي يزهو مُنْتَفِخًا بطول عمره النيابي ، فالطائفة الأولى هي الأقلُّ مالا والأكثرُ وعيًا وانتماءً، هم أولئك الصادقون الأمناء الذين يرون في أنفسهم صلاحًا وقدرة على التغيير ، و يراهم الناسُ كذلك ، يخسرون بعضًا من مالهم وعملهم في سبيل خدمة الوطن وإحقاق الحق بين الناس، بعد الفوز يُفْجَؤون فلا يستطيعون تغيير ما ثبتت أركانه ؛ فيصاب بعضُهم بأمراض مزمنة يتمنون يومئذٍ أنهم لم يدخلوا لعبة دراميَّةً تراجيديةً هي أضيقُ من أمانيِّهم وأصغر من رغباتهم ، حتى إذا انفضَّ المجلس زادت أمراضهم وقلت أموالهم فيعيشون الكَفَافَ كِفَاءَ مواقفِ الصدق والحق التي وقفوها ، هم أولئك الذين رضيت ضمائرهم عن ثبات مبادئهم ورضيت عنهم قلوب الناس وليس ألسنتهم الحِدَاد . والطائفة الثانية وهي أكثرُ عُدَّةً من الأولى ، هم أولئك الذين ينفقونَ جُزْءًا من مالهم للشهرة ؛ فيُتخذ مطيةً لتحقيق مآربِ الأنا في المكانة الاجتماعية ، وذلك كائنٌ في حالات فشل العلم والتقوى والحَسَبِ في تحقيق موقع مرموق ، فَلِمَ لا يكونُ المال سبيلا إلى ذلك !؟ وأفضل مدخل مأمون هو مجلس النواب مُرْتَجى كلِّ طامح ومُبْتَغَى كلِّ ذي مال، وهؤلاء يخرجون من المجلس وقد اكتفَوا بما تحقق لديهم من مكاسب السيادة الذاتية أو المشيخة الاجتماعية بعيدا عن حسابات الصفقات المشبوهة. وأما الطائفة الثالثة فهم أكثرهم عددًا ونفيرًا ولفيفًا وآثارًا في الأرض ،هم أؤلئك الذين احترفوا الرِّبا السياسي مالًا وموقعًا ؛ فينفقون شطرًا من كنوزِهم مؤمِّلين تعويضَها أضعافًا مضاعفة ، فلهم السطوة السياسية والاقتصادية بامتلاكهم مفاتيح العطاءات والتعيينات والضغوطات والمصاهرات، هم شركاء في صنع الدوائر والصالونات ومراكز القرار، إنْ يقولوا يُسْمَعْ لقولهم ، قد اشتَرَوا أشباهَ الرجالِ والراقصينَ على الحبال، كسبوا الأموال والمناصب وإدارة الشركات بكل ما أتقنوه من الوسائل بالسر والعلن ، وقد كسبوا أضعافها من كراهية الناس وسَخَطِهم ، لكنَّ تلك الكراهةَ وذلك السخطَ يتحولانِ بسحر المالِ إلى رضا يُفَرَّغُ على بطاقات الانتخاب خطوطًا عريضةً إن أرادوا الرجوعَ إلى مجلسهم ومهوى أفئدتِهِم ، فكلُّ واحدٍ منهم يراه لعبةً بين يديهِ ، وأنه الحبُّ الوحيدُ لديه ، فحينئذٍ ما أحلى الرجوعَ إليه ! ولا يصدُّهم عن رغبتهم تلك إلا حِيْتَانٌ هي أشدُّ منهم خَبْطًا وافتراسًا. وأما رابعهم فذلك المُعَمَّرُ الذي أوتي حظًّا مُؤَّبَدًا في المجلس بكل دوراته، فلبث فيه من عُمُرِه - ما شاء له ذلك الحظُ المزعومُ - أعوامًا عديدةً وأزمنة مديدة ، لا يحركه محركٌ ولا يزحزحه مزحزحٌ مهما تغيرت قوانين الانتخاب أو تبدلت الأجهزة المشرفة على تطبيقها، ولا ندري هل حبُّ الناس سِحْرٌ لا يبطله كَهَنَةُ المعبد أم أن شهوةَ السياسة الفاتنة قد أحرقت كلَّ مراكب الآخرين في بحار التعيين، وأبقت الأقرباءَ المنتفعينَ في الملعب وحدهم بلا منافس ، وعلى هذا تُفَصَّلُ له ولأشباههِ المناصبُ ويورِّثون لأبنائِهم وحفدتِهم ما وُرِّثَ لهم حتى غدتْ حقوقًا قارَّةً لا ينازعُهم عليها أحدٌ إلا قَسَمَ ظَهْرَهُ جَبَرُوتُ الحظِّ المُخَلَّدِ وأذلَّه رَهَبُوتُ العفاريتِ التي عندَها علمُ الكتابِ ! أليست المناصبُ والمواقعُ فنونًا لا يتقنها إلا الملأُ الذين احترفوا سياسةً مُلقَّحَةً بالدَّجلِ والنفاقِ ! والعاقبةُ لورثتهم الذين تخرَّجُوا في أكاديمياتِ الفراغِ الوطنيِّ المزعوم رغمَ أنوفِ الصادقينَ المُؤَرَّقينَ والمخلِصين المتعبين من أبناءِ الحرَّاثينَ والطَّفَارى والصابرين وحَسُنَ أولئكَ رفيقًا ، الذين كلما رتَـقُوا من ثوبِ الوطنِ فَتْقًا انغرستْ في أكُفِّهِمُ الخِيَاطُ والمخارِزُ ، وفي قلوبِهم تتكسَّرُ النِّصَالُ على النِّصَال ، وكلما دَاوَوا جُرْحًا من جسدِه سالتْ جراحٌ في إثرِ جراح . 
أ.د. خليل الرفوع 

اضف تعليقك

Plain text

  • No HTML tags allowed.
  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Lines and paragraphs break automatically.
Image CAPTCHA
أدخل الحروف التي تظهر بالصورة (بدون فراغات)