TLB News (طلبة نيوز للإعلام الحر)
تجديد الخطاب الثقافي للدولة الاردنية: ضرورة وطنية أ.د.محمد القضاة
26/05/2016 - 8:30am

   في ظل تجاذبات كثيرة في الحياة الثقافية بين ناقد ورافض ومؤيد للمآلات المتنوعة للخطاب الثقافي تجد نفسك امام كمٍّ من الأسئلة والقراءات المثيرة التي يغيب فيها الفعل الثقافي لأسباب تبدو موضوعية امام صانع القرار، وغير مقبولة امام المثقفين الذين يفقدون البوصلة الثقافية في ظل تحديات ما يعرف بالربيع العربي الذي اختلط فيه الحابل بالنابل، وغدا الخطاب تائها بين الفعل المنكفئ وردات الفعل المتسرع في اتجاهات تنطوي على إشكاليات واختلالات بين الوعي والفعل، وبين الماضي والمستقبل، وبين خطاب ماضوي يجهد في التشبّث بالماضي؛ لإرجاعنا إلى عصور خلت وانتهت، وخطاب مستقبلي يقفز فوق ثوابت الحاضر وأفكاره، ونحن بين معادلات تشهد عجزًا تعكس أزمة تطحن الوعي وتسطّحه وتضعه في قوالب جامدة تزيد من التعصّب والانغلاق والتطرّف، حتى غاب فيها الفعل الثقافيّ لصالح الفوضى والعنف والقهر، وبين هذه الظروف تبرز أهميّة مزج الأبعاد التي تحدّد القيمة الحقيقيّة للثقافة في إطار دقيق من المعاينة لردم الهُوّة التي تعيق الطاقات والإنتاج الثقافيّ في المحافل التي تسعى الثقافة للوصول إليها، والمؤسف أن التحديات امام تجديد الخطاب الثقافي في تنامٍ مستمر، لأسباب كثيرة أهمها غياب الوعي بأهمية الثقافة وفعلها، ورغبة صُنَّاع الثقافة في تقديم خطاب لا علاقة له بمعطيات الحاضر وظروفه الموضوعية؛ وكأنّ سؤال القلق الذي طرحه شكيب أرسلان أوائل القرن الماضي: لماذا تراجع العرب وتقدّم غيرهم ما زال حيًّا! لا بل غاب المثقف وسط هذا الصخب وغدا الخطاب الثقافيّ في تخبّط، فلماذا كلّ هذا الغياب؟ ولماذا تسقط الثقافة في هذا الامتحان الصعب؟ أَلأنّنا لا نعترف بالمأسسة والديمومة؟ أم لأن أمتنا لا تحسن التخطيط والاختيار ولا تعترف بالانفتاح بل تحسن الانكماش والدفاع؟! أم لأنّ المثقفين يعيشون نرجسيّة الماضي؟ ومن يتابع الخطاب الثقافي اليوم يشعر بألم وحزن على مآلات الثقافة  وغيابها وواقعها الذي لا يحرّك غصنًا في زمن اللهيب الغريب.

      الثقافة ليست ترفًا ذهنيًّا، وإنما هي أرقى درجات سُلّم التقدّم، تحصّن الإنسان وتدفع به إلى الرفاهية والوعي، واذا لم تكن، فلماذا تضع الدول المتقدّمة خططها الثقافيّة وأفكارها التنويريّة لمجتمعاتها وإنسانها؟ ولماذا تخصّص لها المؤسسات والدوائر والوزارات؟ والثقافة لا يمكن أن تكون ترفًا يسدّ فراغ الإنسان، ولا يمكن أن تكون منصبًا توزّع مكاسبُه على فئة دون أخرى، وإنما هي قاعدة حضارية تعيد للإنسان توازنه وتؤهّله للحوار والنقاش والرؤية، ودونها يبقى الفكر مُعطّلاً، والإنسان متأرجحًا في آرائه ومواقفه وتصوّراته، وهي فعلٌ إنسانيّ لا غنًى عنه، وأداة قياس تمايز بين البشر، ورأس مال معنويّ يوسّع المدارك، ويمهّد الطريق للتفاهم والتعاون والتنمية، ويفتح آفاق الإنسان واتجاهاته، ويؤسّس لقيم الثقة والتنافس وحبّ العمل والثواب والعقاب والابتكار والإبداع والإنجاز والمبادرة، ونقيض ذلك تقاعس وبرود وروتين وهروب واستجداء وتحيّز وشدّ عكسي. والثقافة إعادة بناء لقطاعات الحياة كلها بأسلوب شفاف وبمنطق يكسر الجمود والثبات والتخلّف، ويبحث عن التغيير والإصلاح والتلاقح. وحين ندقق منظومات الدول المتقدّمة نرى أنّ الثقافة قد مارست فعلها الحقيقيّ في النموّ والتغيير والرقي والتقدم، وأنها لا تذعن للآراء الضيّقة والأفكار المريضة والتحيّز والفرضيات والاستغلال غير العقلانيّ، وظلّ هدفها طموحَ الإنسان ورغبته في التجديد والإتقان بعيدًا عن الإحباط ومكنونات الفشل والتلوّث الفكري. وحين نقرأ واقع الخطاب الثقافيّ  نرى أنه بحاجة إلى نسيم ينعش البدن، وماء زُلال يروي الظمأ، وفهم قائم على موازين تأخذ بالأسباب التي تبلغ بالمجتمع إلى مستوى الطموح، ولا تقبل ردود الفعل المركّبة القائمة على المفاخرة والمكابرة والمغالاة والبهرجة، دون نفاذ إلى أطراف البيت كله، بحركة تستوعب الرقعة الاجتماعيّة كلها، بحيث تتجنب تحالفات أصحاب المكاسب ومنطقهم النفعيّ الآني، ومواقف الضعاف من المثقفين النفعيين. وفي هذا السياق، لا يجوز أن تبقى الحيرة والتبرّم والتعليل منطق الخطاب، وإنما لا بدّ أن يتّسع تيّار الوعي لدى الجميع بحيث يحوي البيتُ إيقاعاتِ المثقفين وأفكارَهم وألوانهم، على أن يطالهم الدعم والرعاية والاهتمام والارتقاء على أساس من الانتماء، وتأكيد الهُوِيّة الوطنيّة في المُنتج الثقافيّ وخطابه، وتطوير الفكر والوعي وَفقًا لحاجات المجتمع وقدراته.

    ويبقى السؤال: أين المثقّف اليوم من كلّ هذا؟ لماذا يفشل في الامتحان تلو الآخر؟ أين النخب المثقّفة التي غاب صوتها وخطابها؟ أين صولجانها وخططها؟ أين دورها وفكرها؟ وكيف يمكن أن نعيد مركز الرؤية إلى مفهوم الخطاب المعياريّ بعد أن غاب في سياق معرفة ذهنيّة مُجرّدة لا تجسّد المشهد الذي كان إلى وقت قريب ينمو وينحو باتجاه الوعي والتميّز والفعل وبلورة ثقافة واضحة تخدم حركة التنوير والتغيير والإصلاح في شتّى شؤون الحياة؟ إنها أسئلة حيرى-  في زمن التطرّف والفكر المنحرف الذي تقوده تيارات الشد العكسي على اختلاف ألوانها وأعمارها- تحتاج منّا إلى نفكّر في هذا الواقع تفكيرًا جادًّا يُفضي إلى حلول علميّة وعمليّة، ينجم عنها خطاب ثقافي يعيد إلى المشهد الثقافي حضوره وفعله وإلى المثقّف ثقته بمنجزه ونفسه، بحيث يهيّئ لهم مكانًا عَلِيًّا في المشهد الثقافي الذي يحلم به.   وبعد، لا بد من تجديد الخطاب الثقافي بداية بالمثقف وانتهاء بآليات تجديد الخطاب عينه، من خلال إصلاحات تشريعية تحفظ حقوق المثقف، فضلا عن ضرورة الانتباه لاهمية الصناعات الثقافية ومنابر النشر الثقافية وحقوق المثقف ومهنيته، والتخلص من القيود التي تعيق انتاج الفعل الثقافي، ولا ننسى كيفية إدارة عمل الثقافة واختيار قياداتها التي تعزز المنتج الثقافي بعيدا عن لغة الربح والخسارة؛ لان محصلة الثقافة أرباح لا تنتهي، إضافة الى زراعة الثقة في الجيل الجديد الذي يحمل الخطاب الثقافي  ويدفع به الى المستقبل بثقة وقوة ودافعية لا تلين.

mohamadq2002@yahoo.com

اضف تعليقك

Plain text

  • No HTML tags allowed.
  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Lines and paragraphs break automatically.
Image CAPTCHA
أدخل الحروف التي تظهر بالصورة (بدون فراغات)