TLB News (طلبة نيوز للإعلام الحر)
جماليات الاستبداد والوقوع في الفخ
28/05/2014 - 5:00am

طلبة نيوز
د. بلقيس الكركي
القوّة وتوابعها: كالحسم والحزم والجرأة والشجاعة، كلّها صفات أخلاقية احتفت بها الثقافات على مرّ التاريخ. وإذا كان نيتشه قد انتقد المسيحيّة بعنف السخرية بسبب خيانتها لقيم ‘القوّة’ هذه وتحويلها الفضيلة عن نموذج البطل الإغريقيّ القويّ إلى آخر مستكين متسامح ضعيف، فإن الشيء نفسه لا ينطبق تماماً على الثقافة العربية الإسلامية؛ إذ بقي كثير من المعايير الأخلاقية المرتبطة بالقوة كما هي، نظريا على الأقل، بالقدر نفسه الذي كانت فيه فروسية خالد بن الوليد متجذّرة من قبل أن يصبح سيف الله المسلول؛ يعدّ ما استطاع من ‘قوّة’ للحزب الجديد كما القديم. وقد ورد في الحديث النبويّ: ‘شرُّ ما في الرجل: شُحٌّ هالع، وجبن طالع′. وإذا كان ابن رشد قد أشار مرّة إلى قدرة اللغة الشعرية على تجميل الجبن بالحنين، كما في بيت امرئ القيس الرائع: ‘وما جَبُنَت خيلي ولكن تذكَّرت/ مرابِطَها في بربعيصَ وميسرا’، وإذا كان قدامة بن جعفر قد استعاد الفكرة الإغريقية حول الاعتدال في الفضائل النفسية، أي عن كون الشجاعة مثلاً وسطاً بين الجبن والتهوّر، فإن هذا المقال مخصص لمسألة الإعجاب بالإفراط (حدّ اشتهاء الاستبداد)، رغم ادّعاء الكثيرين تفضيل الاعتدال في الكثير من المسائل السياسية والاجتماعية، ورغم فداحة نتائج هذا الإعجاب على مستويات إنسانيّة كثيرة لا بدّ من توضيحها في محاولة لرؤية الخيط الرفيع بين القوّة الجميلة والاستبداد القبيح. ليست المسألة لغويّة وحسب، وإن كانت تحتمل أكثر من وجهة نظر وتأويل، فهناك ببساطة تأويلات أقوى وأدقّ وأكثر إخلاصاً لنصّ البشريّة من سواها.
أكثر من أمر أثار انتباهي، واقعاً وكتباً. الأول ما ورد في كتاب جيل دولوز وفيلكس غاتاري بالغ الصعوبة: ‘ضدّ أوديب، الرأسمالية والانفصام’، حول طبيعة الرغبة وعلاقتها بالسلطة والإنتاج الاجتماعي. أشارا إلى أنّ الشعب الألماني في الفترة النازية في لحظة معيّنة كان يشتهي القمع، ولم يكن مستبدّاً به تماماً، إلى حدّ أن أخذت الرغبة به والاستجابة له طابعاً جنسياً بالمفهوم الفرويدي. ربما استطاع فوكو في مقدمته للكتاب ذاته ولاحقاً في تاريخ الجنسانيّة، أن يبسّط بعض أفكار دولوز وغاتاري، فيتحدث عن الفاشيّة الموجودة فينا بالطبع، التي تخلق الرغبة بالسلطة الجالبة للذّة، بقدر ما تخلق رغبة في خرق السلطة نفسها لجلب لذّة أخرى في حركة لولبية أبديّة، وهو تبسيط لنموذج دولوز وغاتاري حول دور الرغبة في الإنتاج الاجتماعي، حيث لا بدّ من سلطــة ليستمر تيار الرغبة فيستمر تيار الحياة والإنتاج. تحدّثا، متأثرين بنيتشه بالطبع، عن أنواع كثيرة من القمع والمنع، مفترضين أنّ دورها كان متعلّقا بخلق رغبة مستمرة (على قاعدة كل ممنوع مرغوب)، ولم يكن مقصوداً به محض استبداد يصب في مصلحة سلطة واحدة.
لافتة هي الطريقة التي يعبر فيها أنصار ديكتاتور أو آخر عن إعجابهم به و’ولائهم’ له، وما نراه في مصر الآن بالإمكان تطبيق الكثير من نظريات علمي النفس والاجتماع عليه، بل إنّ ما كشفه ‘البرنامج’ الشهير من الطريقة التي يعبر فيها الناس، والنساء تحديداً، عن إعجابهم بالسيسي و’رجولته’ لا يمكن فهمه بـ’تحليل سياسي’ منفصل عن مسائل فلسفية وأخلاقية معقدة تتعلق بالرغبة والسلطة وسلوكياتهما الفردية والجمعيّة، والملاحظة نفسها واردة في السياق السوري، عندما تتحدث مثلاً فنانة رقيقة بمنتهى ما يسمى الأنوثة عن ولائها للنظام. يكفي حوار عابر حول الحجاج أو صدام حسين للانتباه إلى مفعول القوة الظاهرة في كثيرين، إعجابا بل تقديسا أحياناً. ولأن التطرف يثير الدهشة التي يبدو أنها حاجة بشرية غريزية كما عند الأطفال، نفهم لماذا تكثر الأفلام والوثائقيات حول هتلر والحرب العالمية الثانية وتفوق الأعمال حول أي فترة أو شخصية أخرى ولو كانت أكثر مقبولية لحسّها الثائر المعارض، ولو كانت في قصتها دماء ودراميات أكثر. هناك شيء ساحر في القوة، بل والقمع والاستبداد كما يبدو. للقوة منحى جمالي لا يمكن إغفاله، بالأخص إذا تطرفت، مثلما هو الضعف، فيعمى الناظر عن شرورها فيحول القمع إلى حزم، والاستبداد إلى قدرة سياسية في الاحتواء، والضعف إلى وطنية وولاء، من أجل تبرير الاستسلام للقوة كمثير للشبق الحقيقي والمجازي.
دردشة عادية مع زميلة قالت إن أخرى عبرت بوضوح عن أمنيتها بعريس ‘مثل صدام حسين’ يضربها صباحاً مرة ومساءً أخرى، بسبب تفضيلها ‘الهيبة والرجولة’. أخرى في صالون شعر كانت تعبر عن عشقها لنموذج الرجل المتسلط ‘القوي’ ونفورها من ‘الضعيف’ (ومنه ‘الإنساني المثقف’ كما قالت ساخرة) فربطت بين قوة الشخصية وهوس التحكم بالآخرين، بمن فيهم هي، ولا بأس عندها من الثمن، طالما أنّ ذاك يجعل رغبتها حاضرة كما يبدو، ويعزز فكرة دولوز وغاتاري. كانت تتحدث بصدق وثقة لا متناهية، وكان الحوار يبدو منتزعا من قصة من ألف ليلة وليلة، حيث تتناقش امرأتان فتسخران، كما في كثير من الأدبيات العربية، من نموذج الرجل الضعيف ‘الأمرد’ الذي تستطرد في السخرية منه بلاغات الدنيا، بقدر ما تزال ثقافات العالم الاستهلاكي، تصرّ على الترويج لعلاقات السلطة ذاتها: لفكرة أن ‘الرجال من المريخ’، كوكب الصيادين منذ الإنسان الأوّل، إلى آخر أغنية من ‘الفلكلور المطوّر’ الأردني، حيث يُسأل ‘العريس أبو العقال’ ‘من وين صايد هالغزال’. الأزمة هي في استمتاع الغزالة مجازا وحقيقة بالسلبية والضعف والاستسلام، ورضاها بالاستعارة أصلاً. كانت تستمع إلى الحوار صديقة على قدر لا يستهان به من الذكاء والحرية، لكنها نظرت إليّ باسمة ففهمتُ ما أرادت قوله: ‘من كانت منا بلا خطيئة’، أي إن كل النساء في مرحلة ما، بغض النظر عن التعليم والثقافة، قد وقعن في الفخ، فخ الخيط الرفيع بين معنيين للقوة، أحدهما معروف وهو السائد (المزيف من وجهة نظري)، والآخر ما ينبغي تطويره في المفاهيم المرتبطة بالقوة، بحيث لا تقود إلى ألم مصدره خلل مفهومي، ولا تؤدي، في المقابل، إلى محو للرغبة بسبب ضعف ظاهر. يبدو أن البشر قد يحتملون كلّ شيء إلا غياب الرغبة وفتورها وقد يقبلون، من غير أن يشعروا، بعلاقات سلطوية مشوّهة وبأخطاء مفاهيمية وأخلاقية (أي في حق مفاهيم الحقيقة والعدل) في سبيل استمرار تيار الرغبة في ضخ الحياة.
إنّ إحدى الطرق الممكنة لفك الالتباس هي في الدخول فيه وكشف نقيض المعنى خلف ظاهره. حسب فرويد، فإنّ تضخيم علامات معيّنة يعكس بقوة حضور عكسها كمحاولة لإخفائها، أي كمن يكون كاذباً من يُقسم ويحلف كثيراً. وبهذا يكون كل من زادت لديه مظاهر التعبير عن القوة، يخفي ضعفاً بحجم هذا القوة الظاهرة. هي الطريقة الوحيدة لإثارة الانتباه حول الخلل وإلا بقي الاستبداد بأشكاله مغريا فتمادى في أذى غير مرغوب: أي أن يُرى ويدرك كدلالة على الضعف، وهكذا تخفّ الرغبة فيه، الرغبة التي تؤدي الى أن تسأل الضحية نفسها متأخرة: كيف وصلت إلى هنا. لم أشأ أن أشرح كل هذا لمصففة الشعر فأقول لها إن زوجها باستبداده ضعيف، لأنها لن تقتنع أصلا ولأننا كبشر، شئنا أم أبينا، نميل للظاهر، ولا نريد أن ننبّش عن القوة في جلد شريك أو صديق أو حاكم أو أب ضعيف، بل نريد أن نراها ظاهرة، لأن من طبيعة الرغبة انعدام الصبر. الجمال، في القوة وسواها، هو دوما في الشكل، في الطريقة، لكنها لا تنفصل إطلاقا عن المضمون الذي قد ينسف الشكل سريعاً بمجرد إدراكه. وما نحتاجه هو الإدراك: إدراك الأسباب وقت النظر إلى النتائج والمظاهر، كي لا تمر الخديعة فنقع في الفخ.
أذكر أنّني قبل خمسة عشر عاماً وأكثر قرأت مشهدا علق برأسي من إحدى روايات أمين معلوف؛ إما سمرقند أو ليون الإفريقي، لم أعد أذكر (وربما الطاهر بن جلون، لكنه لمعلوف على الأغلب، وأرجو لمن يعرف المشهد تذكيري بحيث ورد). ما أذكره هو رجل وزوجته في ليلتهما الأولى وسط طقوس العرس، والمدعوّون ينتظرون إثبات الشرف الأحمر. لم يكن يعرف زوجته حسبما أذكر، لكنه لم يشأ إيذاءها بهذه الطريقة، فحزّ يده ليطبع دمه على الملاءة أو الخرقة ويخرجها على الملأ المنتظر. هل كان قويا أم ضعيفا؟ القوة بمعناها السائد معروفة في هذه الحالة، وهي رديف الفحولة بمعناها البدائي السخيف. كان قويا، أمام نفسه على الأقل، إذ لم يستسلم للمفهوم. لكن لأنه أراد أن يبدو أمام الملأ قوياً بمعاييرهم رغم الحيلة، كان إذاً ضعيفاً لأنه لم يحاول مواجهتهم بمفهومه للقوة ولم يستمر في معركة المفاهيم. الشجاعة هي في ألا يقبل بالمبدأ كله أصلا، بسبب مقدمات أقوى على المستوى المنطقي والإنساني، وإن بدا أمام الملأ ضعيفاً إلى حد يصعب احتماله عند من قوّته مستمدّة من كتائب الأغلبية الجاهلة خلفه، التي من دونها هو أعزل بالغ الضعف. وهكذا تكتسب القوة ‘الحقيقية’ ببعض التفكير، معنى الشجاعة بأن تبدو ضعيفاً أمام العالم بأسره، فتحتمل ذلك الذل قبل أن تبدأ بحربك عليهم في عقر مفاهيمهم بأساليب متاحة عليها أن تثبث ‘قوة’ ما ولو بعد حين. ويسبق ذلك أقدم معنى للقوة في الفكر الإنساني: قوة الإنسان أمام نفسه ونزعاتها المريضة الكثيرة، المعجونة بالتاريخ والبيولوجيا لتخدم أكثر من سلطة. حسب دولوز ذاك مقصود في سبيل استمرار تيار الرغبات، على أن ذلك ولو كان حقيقياً فإنّه لا يجمّل الاستبداد، عندي على الأقل، فالإنسان، أي إنسان، يبقى أهم من الطبيعة ومن استمرار الحياة نفسها من بعده.
بحكم اختصاصي في عوالم الأدب، أعرف إلى أيّ حد جاذب هو التطرف. وبحكم مقدمات متنوعة، فإنّ للقوة عندي أفضليّة، لكن حسب أسبابها التي تصنع شكلها الدقيق. وبهذا فإني لا أرى أبشع من ‘القوة’ التي تحاول التعويض عن نقص، أو أقبح من ‘الحزم’ بقرار غبي، أو أكثر وقاحة من ‘الجرأة’ على التفوه بما يشي بالجهل والغباء، أو أكثر ضعفاً من ‘الشجاعة’ في استعباد الضعفاء. نعم، للغة ذمّة واسعة جدّاً، لكنهّا لن تكون ‘قوية’ أبداً من غير مضمون يروم الحقيقة ومن شكل ما منطقي، ولن تكتسب قوتها سلطة مشروعة مغرية لمحض ‘جزالة الألفاظ’ على الطريقة المدرسية. وربما لا بدّ أن يحاول البشر فهم نزعاتهم قياسا إليها، فيفهموا أن بعض مظاهر القوة (كالقمع والاستبداد كما الجزالة الفارغة للألفاظ) هي دليل إفلاس، وليس مغريا أبداً.
‘ كاتبة اردنية

د. بلقيس الكركي

اضف تعليقك

Plain text

  • No HTML tags allowed.
  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Lines and paragraphs break automatically.
Image CAPTCHA
أدخل الحروف التي تظهر بالصورة (بدون فراغات)