TLB News (طلبة نيوز للإعلام الحر)
دروسٌ على هامش الأزمة
29/03/2020 - 1:30pm

أ.د. عبد الناصر هياجنه 
كلية القانون – جامعة قطر 
تعيش البشرية زمناً صعباً، وتواجه تحدياتٍ غير مسبوقة على أكثر من صعيد، وليس أقلها ولا آخرها أزمة انتشار وباء "كورونا" الذي أغلق العالم من أقصاه إلى أقصاه، وفرض على الدول ترتيباتٍ معقدةٍ تتجاوز في قسوتها ما قد يحدث في حالات الحرب. وسيكون لهذه الأزمة والتدابير المتخذة لمواجهتها تداعياتٌ ومآلاتٌ يصعبُ التنبؤ بمداها على أكثر من صعيد. 
ندعو الله ألا يفقد أحدٌ أحداً في هذه الأزمة، وسنروي لأبنائنا وأحفادنا – في زمنٍ قادم - كيف تعاونت الناس وانضبطت وواجهت العاصفة حتى مرّت بسلامٍ أو بأقل الخسائر الممكنة. وسيفخر الأبناء والأحفاد بأجدادهم أن انتصروا في صراعهم مع المجهول القاتل. 
وعلى الرغم من خطورة الأزمة وصيرورتها الراهنة ومآلاتها المجهولة. لكن الثابت أن هذه الأزمة صنعت وعياً نحتاجه على صعيد الأفراد والمجتمعات والدول. فنحن نُبحرُ معاً في سفينةٍ واحدة. ولن ينجو أحدٌ إذا غرقت السفينة أو أغرقها أحد أو بعض من فيها. هذه الأزمة ستعلم الناس الكثير، ولن ترحل قبل أن نتعلم منها دروساً حاسمةً في حياتنا وفي كيفية التنعم بالنعم وذكرها وشكرها لتبقى وتزداد؛ فلم يكن أكثرنا يرى ما يرتع فيه من النعم والخيرات، ولمّا جد الجد، وجدنا أنفسنا نتمنى العودة إلى ما كُنّا فيه مترفين. نبعثر أوقاتناً يمنةً ويسرة ولا نُبالي بحضورنا وغيابنا وحركتنا حتى صار أقصى أمانينا أن نتحرك وأن نلتقي. 
كما صنعت هذه الأزمة وعياً نحتاج أجيالاً وجهوداً هائلةً لصناعته. وتركت من ورائها دروساً في كيفية صناعة الوعي الجمعي للناس بوصفةٍ سهلة أساسها المصارحة والمبادرة والثقة والقوة والتضحية عند اللزوم بما ينقذ المجموع والأهم. 
لقد كانت حالة التباعد الاجتماعي – على قسوتها وما حملته من قلقٍ وضجر– فرصةً لاكتشاف الذات والأقربين ممن حملتنا الحياة المعاصرة على البعد عنهم وافتراض معرفتهم وفهمهم وإدراك أبعاد شخصياتهم ومواهبهم. كما ستكون فرصةً لإعادة ترتيب الأولويات واستثمار الوقت والتطرف في عيش اللحظات الجميلة لذاتها لأنها ببساطة قد لا تعود إنْ هي جاءت أصلاً.
لقد ظهر على هامش الأزمة قيمة البيئة الطبيعية للإنسان والتي أساء الانسان فهمها والتعامل معها حتى أثقلها بكل أنواع التلوث والتدمير وهدر الموارد واستنزافها. وستكون هذه الأزمة درساً بليغاً في أن المحافظة على البيئة وحمايتها لا تحتاجُ كثيراً من الجهود التي يُدعّى ببذلها منذ عقودٍ بلا جدوى حقيقة تصنع فارقاً معتبراً في حالة البيئة والناس. كما طرحت الأزمة أهمية البيئة الرقمية التي يحيا بها إنسان هذا العصر، مثلما طرحت خطورة التبعية والاستعباد الرقمي السائد حالياً على مستوى الأفراد والمجتمعات والدول.
كما قدّمت الأزمة صورة لوحدة السلوك الإنساني أو تماثله على أقل تقدير، وتقارب وردود فعل الانسان في مواجهة المخاطر بصرف النظر عن لونه ودينه وعِرقه وانتمائه الثقافي والحضاري. ومن دروس الأزمة الكبيرة هي أن الانسان عليه أن يتواضع لله القادر على فعل ما يشاء وقت يشاء، وأن يصرف ما يشاء عمن يشاء. فلا فضل ولا منّه لأحد إلا لله العلي القدير الحليم الخبير الذي أسبغ علينا النعم ظاهرةً وباطنة، ووعدنا بالقرب والإجابة إن نحن دعوناه مخلصين له الدين. 
وفي الإطار الأكاديمي، فقد عجلّت الأزمة باللجوء إلى خياراتٍ مستقبلية حانَ وقتها، وأقصد هنا تقنيات التعليم المدمج والتعليم عن بعد، والتي سيكون لها من الآن فصاعداً أثاراً حاسمةً في تغيير شكل وطرق التعليم وممارسته وتحدياته. كما طرحت من جديدٍ على بساط البحث ضرورة إعادة ترتيب الأولويات المجتمعية وعلى صعيد الدول؛ فالبحث العلمي والطب والزراعة والأمن الغذائي والتحوط والتخطيط واستثمار المقومات البيئية ووضع البدائل لمواجهة أي عارضٍ محتمل أثبتت علوّ كعبها وأهميتها الحاسمة لتنمية الانسان وضمان أمنه وسلامته. 
نسأل الله أن يكشف الغُمة، وأن يُفرّج عن الناس ما هم فيه. إنه وليُّ ذلك والقادرُ عليه. 

اضف تعليقك

Plain text

  • No HTML tags allowed.
  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Lines and paragraphs break automatically.
Image CAPTCHA
أدخل الحروف التي تظهر بالصورة (بدون فراغات)