
ذاتَ جامعة ...
د. مفلح الفايز .
وصلت إلى استراحة الجامعة في وقت متأخر من الليل ، بعد أن رافقني عميد الكلية في الحافلة إليها ... كنت مرهقا من وعثاء سفر طويل . استقبلني عجوز أحدب ، لم يصلح العطار ما أفسد الدهر منه ... فتح باب الغرفة المعدة لي ، وتركني في جوّ لاهب ، وظلام دامس ؛ بسبب انقطاع التيار الكهربائي ...
تلمّست السرير وألقيت جسدي عليه ، ورحت في نوم عميق ، لم أصح منه إلا بعد أن تسلّلت أشعة الشمس الحارقة إلى داخل الغرفة .
استبدلت بملابسي غيرها ، وأفرغت حقائبي في الخزانة الجدارية المتهالكة ، وتأكدت من شدة لمعان حذائي ، وخرجت لزيارة عميد الكلية والتعرف إلى الجامعة ، فوصلت إلى مكتبه وقد غاصت قدماي في الرمال إلى الكعبين !!
لا بأس ، فما كنت يوما على حصان سراقة ، ولم يعدني أحد بسواري كسرى !!
استقبلني العميد استقبالا حافلا ، وأحسن ضيافتي عرفانا منه بجميل الجامعة الأردنية التي تخرج فيها . طلبت إليه الإذن بإجراء بعض المكالمات الهاتفية مع أشخاص في الجامعة ، فأمر سكرتيرته بتلبية طلباتي جميعها . وما هي إلا دقائق حتى دخلت السكرتيرة ترتسم على وجهها خطوط الأسف ودوائر الخجل ، معتذرة إلى العميد بكلمات متلعثمة عن عدم إمكانية إجراء أي اتصال هاتفي ؛ بسبب تقطع أسلاك الهاتف الأرضي التي اقتاتت عليها الفئران في الليلة الفائتة !!
ابتسمت .. وخرجت في جولة في الحرم الجامعي الفسيح ، الذي عرفت فيه كل شي ء إلا الإسفلت . تلفني الزوابع كلما هبّت الريح ناثرة الغبار على رأسي .
حمّام رمليّ بكل معنى الكلمة ، يزيد طينه بلّة تصبّب العرق من جبيني !!
على قارعة الحرم الجامعي ثمة امرأة تختبئ تحت مظلّة من القش تقيها حرارة الشمس ، تشعل " ببورها " لتسخين الماء اللازم لإعداد المشروبات الساخنة . جلسْت بقربها على الأرض ، ودفعت ثمن كوب من الشاي قدّمتْه لي في كأس مضلّعة احتسيت شايها بنكهة الغبار والشفقة !!
لملمت بقايا صبري ، وفضلة إرادتي ، وعدت إلى الاستراحة ..أعني جهنم والعجوز ، وأنا أتضوّر جوعا ويأسا وشفقة وندما !! فيادرني بتمتمات وصفير فهمت منها أنّ الغداء جاهز . صدمتني رائحة الطعام المترعة بزيت " العربي " ، فلم أذقه ، ودخلت غرفتي ... حركات مشبوهة في الخزانة ، فتحتها فإذا أنا وجها إلى وجه مع الحراذين والجراذين تسرح فوق ملابسي وتمرح ... لملمت ثيابي وهربت ...هربت ... يا الله !!
حنانيك أيتها الأردنية الجامعة الأمّ ، تفتحين لنا ذراعيك كل يوم ، ونفتح ذراعينا شوقا وحبا وفخرا وعلما . كليات ومقاعد وأشجار وأزهار، وورود ورايات . ومهما تنقلت القلوب ، أوكثرت الدروب ، أنت حبنا الأول ، وحرمك شاطئ أمنياتنا الأخير
اضف تعليقك