TLB News (طلبة نيوز للإعلام الحر)
موت الشعرية في مقبرة الديوان
24/02/2020 - 12:00pm

طلبة نيوز -
هي أسئلة وجودية منذ بدايات الشعر: هل يموت الشعر حينما يذاع بين الناس؟ ومن الذي يحكم عليه بالموت طالما أصرَّ قائله على نشره؟ وهل هناك شعر حيٌّ وآخر ميت؟ ولِمَ يصرُّ الشعراء على إذاعة كلام لا حياة فيه ولا جذوة تحت رماده الترابيّ المتراكم فوقه؟ ولِمَ أصرّ شعراء المدرسة الحولية على تجويد شعرهم أياماً عديدة وسنواتٍ طوالاً ؟ أسئلة تنبلج من دوائر الشعر لتفرّقَ ضمنا بين الشعر واللاشعر أو لنقل بين الحياة والموت.
كثير هو الكلام الذي يُنسَب إلى سلالة الشعر افتراءً، وكثيرة هي الكتب التي يُقيَّد على أغلفتها دواوينُ شعر، وإذا ما تصفحتها فلن تجد شعراً بل غثاء بلا زبد وأضغاث بلا خضرة ماء.. كلام منظوم مصفوفٌ لا جمالية فنٍّ فيه ولا حياة .
ليس مرجعُ قولنا عصبيةً مفرِّقةً بين القصيدتين العمودية والتفعيلة، فكلتاهما أصل في الشعر وبهذا يُخْرَجُ ما يسمى «النثر الشعري» من الدائرة المقدسة لأنه لا يلتزم بالإيقاع الشعري خارجياً وداخلياً، وهما ضابطان مهمان في تمييز الشعر عن النثر، وإلّا لسَمَّيْنَا نتاجَ عبدالله بن المقفع والجاحظ وطه حسين شعراً
إن ظاهرة نشر كلام منظوم أو موزون مقفَّى وهو يخلو من الشعرية ظاهرة منتشرة تقضُّ مضاجع النقاد وتضيف إلى همومهم أوجاعاً نقدية ثقيلة، فإذا صمتوا اتُّهِمُوا بعلمهم وعملهم، وأما إذا قالوا آراءَهُم بصرامة نقدية خالصة لا شِيَةَ فيها لذعتْهم أوزارُ المجاملة وكلماتُ الإهداء الموشْاةُ قبل القراءة، ونادرا ما يجد الناقد عملاً يستحقُّ التأملَ والنقد أكان شعراً أم نثراً. وهنا الحديث عن الناقد الموضوعي وليس عن القارئ المُصانع المجامل الذي يعيد نثر الشعر وشرح مضامينه غيرَ مدرك لقيمة اللغة والصورة والموسيقى في توتيره إن كان?عملاً فنياً مستفزاً .
قراءة ديوان أو كتاب لا تصنع شاعراً، بل كثرة قراءة الشعر قديمه وجديده، والتعمق في التأمل النفسي والكوني والرؤية الثاقبة الناشئة عن موهبة غير متصنعة، وطبع سليم في اللغة والذائقة والذاكرة؛ تلك مقومات أساسية لصناعة أسلوب مطبوع راقٍ ممتاز في فن الشعر بحيث لا يعيش الشاعر في جلباب غيره .
إن اللغة الإيحائية غير المعجمية تشكِّلُ أيّ قصيدة إبداعية تكتب حضورها في وجدان كاتبها، مشرَّبة بروحه ورؤيته وأسلوبه من خلال صور متحركة متجددة وإيقاع داخلي مُعَبَّرٍ عنه بجرس الحروف والكلمات وتجاذبها تجاذباً مُمَوْسَقاً وليس تنافراً ركيكاً، وإيقاع خارجي يصاحبه معاً في التفعيلات والقوافي .
إنّ تجديد الشعرية من خلال اللغة والصور والإيقاع والرؤية هو سبيل الشعر المُلْهَم الذي تشرق له القلوب وتتجاذبه الأخيلة مستنفرةً متأملةً، ولعل هذا ما يميز شعر المتنبي، فلو قُرِئَتْ أيّ قصيدةٍ من ديوانه لوجدَ القارئ المتأمل سِرّاً مُعَبَّراً عنه بِمُعْجِزِ المتنبي .
إن سُوقية الألفاظ وتقريريَة الصور وركاكة الإيقاع وتكرار المضامين وغياب الرؤى والمباشرة الخطابية الوعظية لهيَ معاول تتلاقى أسنَّتُهَا لتهدمَ أيّ عمل ينشر بين الناس، ومن ثَمَّ فلا حاجة لحذق ناقد كي يحكمَ عليه بالموت، فقد وُلِدَ ميتاً، وإكرام الميت دفنه كما يقول الناس جميعاً، وإن لم يُدْفَنْ ذلك الشعرُ فإن رائحته النتنة الكريهة كفيلةٌ بحتمية نفور الأنفس عنه أكانت مُحِبَةً مجامِلةً لصاحبه أم قاليةً ساخطة، وحينئذ يكون الديوان مقبرة لشعريةٍ ميتة.
أ.د. خليل الرفوع

اضف تعليقك

Plain text

  • No HTML tags allowed.
  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Lines and paragraphs break automatically.
Image CAPTCHA
أدخل الحروف التي تظهر بالصورة (بدون فراغات)