TLB News (طلبة نيوز للإعلام الحر)
هَوَس الشاشة "مغارمٌ ومغانم"
08/05/2019 - 1:15pm

بقلم: المهندس عامر عليوي/جامعة العلوم والتكنولوجيا الاردنية
يقول الفيلسوف باسكال في كتابه "تأملات باسكال" عن فكرة الإلهاء: "رغم وجود آلاف الأسباب التي تشعر الإنسان بالملل نجد أن أتفه الأمور مثل دفعة كرة بلياردو تكفي لإلهائه، وسوف يجد المرء السعادة مهما بلغ حزنه إذا اقتنع بممارسة بعض وسائل الإلهاء، إلا انه ومهما بلغ من سعادة سريعا ما يكتئب، ويشعر بالتعاسة، إذا افتقد عنصر الإلهاء".
وقال الكاتب والإعلامي البريطاني جيمي بارتلت في كتابه "البشر في مواجهة التكنولوجيا": "قد سَلَّمنا عن غير قصد كثيراً مما نملك لقوى غامضة، تختبئ وراء جدار الشفرة، وسمحنا لحفنة من الرجال الخياليين في وادي السيليكون بالتلاعب بكل شيء".
أما سوزان غرينفيلد الأكاديمية في جامعة أوكسفورد تقول في كتابها "تغير العقل": "بقدر ما يشكل العالم الرقمي مصدراً أساسيا للمعلومات المباشرة، يمثل بالموازاة مع ذلك سببا نخسر به خصوصيتنا ومميزاتنا الذاتية بشكل سريع، خاصة بعد انتقال الرقمية في السنوات الأخيرة من المكاتب ومقار العمل إلى غرف المعيشة وجيوب الأفراد".
بتنا نعيش في زمنٍ يشهد فيه العالم هوساً متصاعداً بالشاشة، فالرقمنة خطفت الحياة اليومية بأسرها وتفاصيلها، زمن لم يعد باستطاعة الآباء أن يمنعوا أطفالهم أو يعرفوا ما يفعلونه على الانترنت، زمن فيه جيل متعته وملاذه وعالمه في غرفة نومه الموجود فيها الكمبيوتر والموبايل الخاص بهم فبات هناك انعزال مخيف داخل الأسرة الواحدة، زمن ان جلست في مطعم، ستشاهد العديد ممن يجلسون على الطاولات المجاورةِ لك إما زوجان، أو صديقان أو حبيبان يتناولان طعامَهما على مهلٍ، ستلاحظ أن كلّ منهما جالسٌ بصمت، ممسكٌ هاتفَه النقّال، ولا يتبادلان الحديثَ، أو ينظر أي منهما إلى الآخر!!! زمن نعيش فيه حالة عالية من الهوس بالذات، أينما تذهب ستحصى الآلاف ممن يلتقطون صورة سيلفي لأنفسهم ويبثونها على الفور على منصات التواصل الاجتماعي، في محاولة للحصول على الاعجاب من الآخرين. وأثبتت دراسات أجريت عام 2013 أن عشرات الآلاف أغلقوا صفحاتهم على فيسبوك نظرا لعدم الرضا عن حياتهم وأشكالهم مقارنة بالآخرين الذين يبثون صورهم في لحظات الاستمتاع بالحياة بشكل كثيف، فالرقمنة قللت الرضا عن الحياة وفرضت على الشخص أن يقارن نفسه دائما بغيره فاختار البعض أن ينتحر في العالم الافتراضي بدلاً من أن ينتحر في العالم الواقعي، وهذا يدق ناقوس الخطر وينذرنا بقرب ظهور المواطن الرقمي الذي لا يعرف شيئا عن الحياة بدون الموبايل المرتبط بالانترنت.
وهنا اتسأل هل الهاتف الذي لا نستطيع العيش بدونه أصبح جزء من أدمغتنا؟!!! وهل نحن الان نعيش حالة رهاب فقدان الهاتف الذكي (Nomophobia: No, mobile and phobia) ؟!!!، أي توتر الشخص حينما لا يكون هاتفه الذكي بحوزته، وهذا يدفعني ايضاً للتساؤل عن التقنية، هل هي مفيدة أم ضارة؟
الجواب كما يقول جاك الول في كتابه "خدعة التكنولوجيا": إن هذا السؤال خاطئ من أساسه، بمعنى أن الخطاب التقني العالمي يصدر لنا التكنولوجيا كسكّين، يمكن أن تستخدمه لقطع الطماطم من أجل عمل سلطة شهية، أو يمكن أن تستخدمه لقتل جارك، الأمر في النهاية يعود لك، بذلك تكون التكنولوجيا -في حد ذاتها- هي عنصر محايد له علاقة فقط بطريقة استخدامك لها، ببساطة، لا يمكن أن تضع كل تأثيرات التقنية الضارة والنافعة أمامك على الطاولة ثم تنتقي منها المفيد فقط، الصفات الضارة والمفيدة لأي تقنية هي تركيبة معقدة لا يمكن فصلها عن بعضها لسببين: الأول هو مدى تعقدها، وعدم قدرتنا على توقع مستقبل هذه المنظومة المتعقدة بطبيعتها، والثاني هو مدى تعقدك أنت، فحينما يمسك الإنسان بالسكين يصبح شخصا آخر بمعايير أخرى تماما، تتولد لديه أفكار جديدة لم تكن موجودة في السابق، ويختلف حكمه على الأشياء.
واختم بالإشارة الى ما جاء بكتاب "تغير العقل" حيث لفتت الكاتبة الانتباه إلى حقيقة مهمة وهي أن من 20 % إلى 40% من الذكاء موروث، أي أن ما يقرب من 80% من الذكاء مكتسب، وفي ظل تحكم الشاشة في تكوين الرأي فإن العقل فعلا أمام مرحلة تغير يجب إدراكها والاستعداد لمواجهة آثارها التي تمد يديها داخل البيوت والأنفس على السواء. إذاً إن الثورة التكنولوجية أو المعلوماتية أو الرقمية كما يرغب البعض بتسميتها، لن تختلف عن سابقتها من الثورات، فكما تحمل الواحدة منهن معها مزايا ومحاسن يسّرت أمورا كثيرة الا أنها في ذات الوقت تنطوي على مخاطر ومساوئ تهدد جوانب عديدة في حياة الكائن البشري.
(إنها معادلة أقرب ما تكون إلى القاعدة الفقهية القائلة: "الغُرم بالغُنم"؛ أي: إن مَن ينال نفع شيء يجب أن يتحمل ضررَه).

اضف تعليقك

Plain text

  • No HTML tags allowed.
  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Lines and paragraphs break automatically.
Image CAPTCHA
أدخل الحروف التي تظهر بالصورة (بدون فراغات)