د.عبدالله بن معيوف الجعيد
@abdullahaljuaid
الحمد لله الذي أسبغ علينا نعمه الظاهرة والباطنة، وهيأ لنا سبل الخير ونوّعها، وذلل لنا وسائلها، وجعلها متاحة لكل منا حسب حاله.
والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد وعلى آله وصحابته وأتباع ملته .
أما بعد: فإن الحياة صحائفُ تطويها الأيام، تمر سريعةً مر السحاب، تحمل في طياتها الفرص التي إن لم يغتنمها الإنسان وفاتته فإن عاقبته الخسارة والندم، ولا يغتنم الفرص إلا كل حريصٍ على دنياه وآخرته، ولا يمكن لمن كان طبعه الكسل والتسويف أن يغتنم فرص الحياة؛ لما تورثه هذه الطباع من الصفات السلبية التي تحول دون سعي الإنسان نحو ترك بصمته الإيجابية في الحياة، والتي تترك أثرًا لا يغيب مهما توالت الأيام والسنوات.
إن الأثر الحسن الذي يتركه الإنسان في هذه الدنيا إنما هو بالأعمال الصالحة التي يبقى أجرها للإنسان بعد مماته ورحيله عن هذه الدنيا الفانية.
وإن من توفيق الله للعبد أن يحرص على طلب النجاة بغرس الأثر في هذه الدنيا، فيعمل على اغتنام فرص الخير وعدم تفويتها؛ لما لها من الأجر العظيم الذي يدوم مهما طال الزمان، فيسعى المرء لأن يكون له سهم في أعمال الخير على قدر استطاعته ومقدراته، فعن أنس بن مالك ¢ أنه قال: قال رسولُ الله ‘: «يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى وَاحِدٌ، يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ». متفق عليه.
ومن فضل الله تعالى أن جعل أعمال الخير واسعة الدلالات، كثيرة الوجوه، متنوعة المجالات، ومقابل ذلك جعل الآجال مقسومة والأعمار مضروبة؛ ليبادر المسلم الفطن أجله في أعمال الخير؛ لأن الإنسان منذ أن يأتي إلى هذه الدنيا يبدأ عمره بالتناقص وأجله بالاقتراب.
والكيّس الفطن من يعي هذه المعاني ويعمل على ترك الأثر الحسن في دنياه قبل رحيله عنها إلى الدار الآخرة، فيجتهد في بذل الخير للخلق، ومساعدة المحتاجين، ويسعى في نصح الناس وهدايتهم إلى طريق الحق بالدعوة إلى الله وإرشادهم إلى لزوم الطاعة وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، ويجعل من أهدافه ومهامه في هذه الحياة أن يكون عونًا للناس على الخير، سندا للضعفاء وغوثا للمحتاجين، يضع بذلك بصمته ويغرس به أثرا يبقى بعده،
وآثار الناس تبقى سواءً كانت خيرًا أم شرا، ثم يجزى الإنسان بها، قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يس: 12].
فأعمال الإنسان مسجلة بما فيها من آثار الخير والشر التي كان الإنسان سببًا فيها سواءً في حياته أو بعد مماته، والمؤمن يحرص دائمًا على ترك الأثر بين الناس ليجزى به في الآخرة، فيكون حاله في هذه الدنيا بين نشر العلم النافع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبين بذل الخير للناس.
ولو تأملنا لوجدنا كثرة كاثرة في أعداد البشر الذين مروا في هذه الحياة، ثم أصبحوا في الغابرين، فكان مِن بينهم أقدامٌ تلاشت معالِمُها، وذهبَتْ آثارها، وأخرى ما زالت آثارها باقية، ومعالِمُها ظاهرة، قد ارتحلوا، لكن بقي ذكرُهم الحسن يملأ الدنيا، وفي ذلك كانت دعوة نبي الله إبراهيم ’: وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء: 84].
فقد طلب الخليل من الله ¸ أن يجعل له ذكرًا حسنًا بين عباده المؤمنين، وأثرًا طيبًا تهتدي به الأجيال القادمة من المؤمنين إلى قيام الساعة، وقد قال الرافعي ¬: (إذا لم تزد شيئًا على الحياة، كنت زائدًا عليها).
وإن من نعم الله العظمى على عباده المؤمنين أن يسَّر لهم من الخير والبر أبوابًا وطرائق كثيرة، يختار منها العبد ما يشاء في هذه الحياة؛ ليترك أثرًا من خلاله، فينبغي للمرء أن يسعى في ترك أثر حميد يكون له ذخرا، وذكرا حسنا، ويجري له أجره بعد مماته، فعن أبي هريرة ¢ عن النبي ‘ أنه قال: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا» رواه مسلم.
ففي هذا الحديث أن الدعوة إلى الله من أعظم الأعمال التي يبقى أثرها ويتضاعف أجرها.
ومن الأعمال التي يترك بها الإنسان الأثر، وينال بها الأجر: الدلالة على فعل الخير، فعن أبي مسعودٍ الأنصاري ¢ قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ‘، فَقَالَ: إِنِّي أُبْدِعَ بِي فَاحْمِلْنِي، فَقَالَ: «مَا عِنْدِي»، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَا أَدُلُّهُ عَلَى مَنْ يَحْمِلُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ‘: «مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ» رواه مسلم.
ففي هذا الحديث أن الدلالة على الخير غنيمةٌ كبيرة، فإن الدلالة على الخير قد لا تكلف الإنسان جهدا شاقا ولا مالا طائلا، ومع ذلك يحصل بها على الثواب العظيم، وما أعظمها من غنيمةٍ يغفل عنها كثير من المسلمين.
ومن أجل الأعمال التي يبقى أثرها ويستمر فضلها بين الناس نشر العلم النافع، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ‘ ، قَالَ: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ : إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ». رواه مسلم.
وفي رواية: «إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ : عِلْمًا نَشَرَهُ ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ ، أَوْ بَيْتًا لاِبْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ ، تَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ». أخرجها ابن ماجه وابن خزيمة.
قال الإمام ابن القيم ¬ في كتابه النفيس طريق الهجرتين: (قد ذكرنا مائتي دليلٍ على فضل العلم وأهله في كتاب مُفرَد، فيا لها مِن مرتبةٍ ما أعلاها، ومنقبة ما أجلَّها وأسناها! أن يكون المرءُ في حياته مشغولًا ببعض أشغاله، أو في قبره قد صار أشلاءً متمزِّقة، وأوصالًا مُتفرِّقة، وصحفُ حسناته متزايدة تُملى فيها الحسنات كل وقت، وأعمال الخير مُهداة إليه مِن حيث لا يحتسب، تلك واللهِ المكارمُ والغنائم، وفي ذلك فليتنافَسِ المتنافسون، وعليه يحسد الحاسدون، وذلك فضلُ الله يؤتيه مَن يشاء، والله ذو الفضل العظيم).
ويقول ¬: (إن العالم إذا زرع علمه عند غيره ثم مات جرى عليه أجره، وبقي له ذكره، وهو عمر ثان، وحياة أخرى، وذلك أحق ما تنافس فيه المتنافسون، ورغب فيه الراغبون).
ومن يرى هذه الشواهد ويعي ما فيها من الخير فإن عليه أن يسعى إلى نشر العلم النافع بكل ما تيسر له من سبل، سواء في ذلك تعليم الناس، أو مساعدة طلاب العلم دعما وتشجيعا، ونصحا وإرشادا وتوجيها.
قال ابن جماعة ¬: واعلم أن الطالب الصالح أعود على العالم بخير الدنيا والآخرة من أعز الناس عليه وأقرب أهله إليه، ولذلك كان علماء السلف الناصحون لله ودينه يلقون شبك الاجتهاد لصيد طالب ينتفع الناس به في حياتهم ومن بعدهم، ولو لم يكن للعالم إلا طالب واحد ينتفع الناس بعلمه وعمله وهديه وإرشاده لكفاه ذلك الطالب عند الله تعالى، فإنه لا يتصل شيء من علمه إلى أحد فينتفع به إلا كان له نصيب من الأجر كما جاء في الحديث الصحيح..).
وإن الصدقة من أعظم الأعمال أجرًا وأكثرها نماءً، فالإنفاق في سبيل الله من أربح البيوع، وقد قال تعالى: وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [البقرة: 245] وقال: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 261].
والمسلم الموفق يحرص دائمًا على أفضل الأعمال وأعظمها ثوابًا، وإذا أقبل على الصدقة حرص على أن تكون له صدقة جارية يستمر أجرها وثوابها حتى بعد موته، والتاريخ الإسلامي مليء بالكثير من الرجال الصالحين الذين ماتوا وتركوا صدقات جارية انتفع بها المسلمون لسنوات عديدة وأزمنة مديدة، وهم أهل لأن نغبطهم ونسعى لأن نكون منهم، ونقتدي بهم.
اضف تعليقك