طلبة نيوز-الدكتور شفيق علقم
قال تعالى:(أفلم يسروا في الارض ، فتكون لهم قلوب يعقلون بها ، أو آذان يسمعون بها ؛ فانه لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور)الحج:46
لا ريب أن القلب هو مناط العقل والبصيرة ؛ اذ له القدرة على التفكير والشعور والعاطفة والانفعال كرها و حبا ، وهو مستودع تخزين المعلومات ، يعمل بالتنسيق والتواصل الدائم مع المخ عبر نبضات مغناطيسية ؛ فاذا صلح هذا الجهاز الغريب العجيب الاكثر اجزاء الجسم تعقيدا ودقة وغموضا وتحكما بالمخ ؛صلح الجسد كله ، جاء في الحديث الشريف ( ألا ان في الجسد مضغة اذا صلحت صلح الجسد كله واذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب) اخرجه البخاري .
اذن، فالقلب هو مركز قبول الاخر او رفضه ، ولو تمعنا في أس الخلافات العربية- العربية؛ لوجدنا ان معظمها يتركز في هذا الجهاز المعقد، أي في قلوب القادة والمسؤولين العرب ؛لاسباب كثيرة قد تكون اجتماعية او دينية او عرقية او اثنية اومذهبية او طائفية او مصلحية او تبعية وانقيادية... وقد تراكمت هذه الخلافات بين الدول العربية اخيرا، ونقلت المجتمعات العربية إلى حافة الهاوية، وكثرت حتى كادت تسد عين الشمس، واحلولكت حتى كادت تطمس نور القمر . هذه الخلافات التي ازمنت وتجذرت ارجعت الامة العربية إلى حضيض الوجود التاريخي الذي لم يبق للعرب بعده الا الانحلال والاضمحلال والزوال ،تحديات عنيفة تواجه الامن القومي العربي الذي اصبح في مهب الريح مهددا بوجوده. ازدادت التوترات في العلاقات البينية التي باتت تهدد مستقل المنطقة العربية باكملها ،ووحدة شعوبها برمتها ،خلافات وصلت إلى حد القطيعة والحقد والضغينة ، وما زال البعض يتملق بترهات ان لا خلافات بين الاشقاء !!!!
حالة من الضبابية المركبة ،وتحديات تقود إلى مصائر كارثية ،ومثبطات كبيرة للانطلاق نحو مستقبل عربي افضل، تحديات تكاد تمزق العباءة العربية وتطيح بالكوفية والعقال العربي الرمز.
فما أجدر القادة والمسؤولين العرب واحوجهم إلى التفكير في مواجهة هذه التحديات والازمات والمخاطر الجسيمة ،او الحد منها على الاقل واستشراف ابعادها ومخاطرها وتجاوزها.
لقد كبر حجم هذه الخلافات والتحديات، جهارا نهارا وسرا واعلانا، التقليدية منها والحالية ،الآنية والمستقبلية، الظاهرة والباطنة، الكامنة والنائمة والمستغرقة ، اخذت تتفاقم في كل آونة وحين، وباتت تعمق الشروخ العربية المستوطنة والمتأصلة والجروح الدامية والمستعصية.
ان الظروف العصيبة التي تواجهها المنطقة العربية تكاد تعصف بالأخضر واليابس ،وبالاوطان والكيانات الكرتونية الهزيلة المتآكلة، وما تزال الامة في سباتها ترتشف المورفين في فكرها وقلبها ، وتنام نوم أهل الكهف على خلافاتها.
لقد انحطت مجتمعاتنا العربية في ظل هذه الاوضاع إلى مجتمعات الصفر؛ حيث وصلت إلى حالة من الجمود السياسي والفكري والمواقف المتضاربة؛ فلا يمكن احتمال الوصول إلى قرار في ظل هذه الحالة المستعصية ، مما يفرض اسلوب السياسة بالنسبة لمجتمعات الصفر هذه اساليب التوريط في المعضلات والخداع والمشاكل والمآزق؛ وذلك ما يستتر وراء دعوات بلاغية رمزية جوفاء بلا تغيير اوتبديل، فيظل الوضع القائم باقيا على ما هو عليه ،يدور حول نفسه .
ان ثمة حاجة ملحة قصوى لمعالجة جذرية وسليمة لهذه الظواهر المزمنة، فلا بد من معالجتها بعمق ،وخلع جذورها من الاساس، وذلك بمعرفة وتحديد نقاط التلاقي والتضامن والبناء عليها وتعميقها، واقصاء حالات ومواقف التباعد والتجافي وتجاوزها ؛ فما اشبه اليوم بالامس !! وما اشبه الزمن العربي الراهن بزمن القائد المشهور صلاح الدين الايوبي من التفسخ والتفتت والانقسام والتباعد والتناحر وعمق الخلافات !! فكان اول ما قام به صلاح الدين آنذاك من اجل الاصلاح هو اصلاح النفوس وتطهيرها وتقربها من الله واصلاح المجتمع وشان العامة، وهذه ركائز الاصلاح الاساسية ، فبدأ باقامة العدل ونصرة المظلوم ، ونشر الامن والامان وتثقيف الشعب وتعليمه بخطوات مدروسة ،اقام العدل بين الناس ، وساوى بين الافراد والجماعات ،وحارب الفساد والمفسدين ،ثم هيأ الشعب ودربه ورغبه في آلية الجهاد والانضواء تحت لوائه.
اذن لا بد من تحلي الناس بمكارم الاخلاق واصلاح النفوس، والاطباع ومحاربة الفساد المستشري في المجتمعات العربية، ونصرة المظلوم ومنع التعدي على حقوق الغير،ولو كان اكراها ، ولا بد من اصلاح الفساد الاداري والتعليمي والتجاري ،ومنع الرشاوى واستغلال المناصب والمحاباة، ولا بد من التوجه إلى الداخل واصلاحه ،بوضع القوانين وتكريس ممارسات تؤمن العيش المشترك ،وتكفل المساواة بين المواطنين امام القانون، وتطبيع تكافؤ الفرص والعدالة ،وتوفير التنمية والتوجه نحو الديمقراطية الحقة ، ولا بد من معالجة نقاط التلاقي وترجمتها بين الاقطار العربية على المستوى القومي باتفاقيات ومبادرات وممارسات تعمق الوئام وتبعد الخصام ، وتؤمن التضامن والمصالح العليا المشتركة، وتحل النزاعات البينية بالتفاهم، ولا بد من اقامة مؤسسات قومية للتعاون والتكامل ومعالجة الخلافات داخل كل قطر الواحد بالتفاوض والمبادرات الاصلاحية.
صحيح انه يقال من السهل ان تفسد ومن الصعب ان تصلح ، ولكن لا بد من الصبر واجتثاث جذور الفساد من اعماقها ،والوقوف على الاسباب الحقيقية للخلافات العربية- العربية والتعامل معها بشفافية ؛لتحقيق التضامن العربي، وتنقية الاجواء ، فلئن اركن الامر إلى جامعة الدول العربية فهي قد باتت عاجزة وغير قادرة على اصلاح نفسها اولا ،وغير قادرة على التعامل مع الاحداث الكبرى بالمنطقة ثانيا ؛ فلا بد من وضع استراتيجية عربية شاملة لمواجهة التحديات.
صحيح ان ثمة مثبطات للانطلاق نحو مستقبل عربي افضل ؛ لان هؤلاء الذين يتحدثون عن المصلحة الوطنية المشتركة ،والعزة والكرامة العربية ، والقيم والشهامات ،هم انفسهم يمارسون المصلحة بابداع ،لا يستطيعون القيام بذلك ابدا ، لانهم يبحثون عن انفسهم، وحينما يعم مثل هذا البلاء فينا وفي بعض المسؤولين والحكام منا، حين يبحث كل واحد منا عن نفسه تسقط سائر الاعضاء، وذلك سبب طردنا من الاندلس ؛فالله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس انفسهم يظلمون ، ثم اقول عبرة من التاريخ ، ان قانون السقوط يقول :حين يبحث كل عضو عن نفسه تسقط سائر الاعضاء فالانانية قاتلة ، وعندما يسود الشك والارتياب تنهار كل النفوس، فالشك داء مخيف يدمر النخوة في النفوس، ويطرد المحبة من القلوب ،ويطفيء بريق الايمان في العيون.
فقد هد قدما عرش بلقيس هدهد
وخرب حفر الفاس سد مارب
ان المستقبل المشرق والمزهر يصنعه الاذكياء الغيورون على الامة بكفاءة، وذلك عندما تسود العدالة الاجتماعية والحرية الفكرية.
ولئن سالتني عن التحديات التي تواجه الامة العربية اقول لك انها كثيرة وكثيرة: فهي تتمثل في تحديات الامن القومي العربي ، فمنها تحديات مستشرية مزمنة تقليدية كالقضية الفلسطينية ودهاليزها المظلمة ،ومنها المأساة السورية وتعقيداتها المدمرة ،ومنها الثورات المنتشرة في انحاء بقاع الوطن العربي، المتمثلة بالقوة الشعبية او ما يسمى بالربيع العربي ومآلاته ،والتغييرات المستمرة في الاولويات الاستراتيجية الامريكية والاوروبية التي تحتضننا ، فالامور كلها تتغير داخل المجتمعات العربية وفي العالم على السواء، كما ان من التحديات تهديد المصالح العربية الاسلامية في كل من افغانستان وباكستان ،وبعض البلدان الاخرى، حيث يذبح المسلمون كالنعاج ويحرقون كالحطب ، وكذلك المشاكل المعقدة في كل من مصر وليبيا واليمن، والخلافات الخليجية- الخليجية ،وما نتج عنها من حروب اعلامية تخطت كل الاعراف والتقاليد والقيم ، والمصالحة الفلسطينية- الفلسطينية وتبعياتها،وتباين مفهوم الدول العربية عن الارهاب ومكافحته،
والخلافات داخل لبنان وعنتريات بعض المسؤولين فيه،فالكل في لبنان زعيم، زعامات صغيرة متعددة اورثت تحالفات ذات جذور دولية ممتدة للخارج، والحالة العراقية بكل تعقيداتها الطائفية والمذهبية والحزبية والميليشية والدينية والمللية والنحلية، فكأنما في العراق ثلاثة دول شيعية وكردية وسنية ،صراع طائفي عرقي بامتياز على السلطة،
ناهيك عما يعانيه السودان من تمزق شماله وجنوبه،وشرقه وغربه، والاتفاقيات والمعاهدات الكثيرة بين جهاته والصومال وما ادراك ما الصومال،
وثمة خلافات جزائرية - مغربية وسورية -لبنانية وكويتية -عراقية وسعودية - قطرية -سورية
ان الظروف العصيبة التي تواجهها الامة العربية تتطلب ان يتحمل العرب انفسهم مسؤولية مصيرهم مجتمعين لا متفرقين ،وحماية امن امتهم ومجتمعاتهم ومصالح اوطانهم وبلادهم،
ان معالجة جذرية سليمة ملحة ،ومصالحة اخوية لكل هذه الظواهر والخلافات والمعضلات المزمنة والقاتلة باتت مطلبا جماهيريا على وجه السرعة والتعقل ،ومعرفة الرؤى والمناهج والاساليب الكفيلة بذلك ،ولا بد قبل كل شيء من البدء في الاصلاح من الاساس وهو صفاء النيات والاخلاص واستنفار العزائم والغيرة والشهامات والنخوات.
اضف تعليقك