TLB News (طلبة نيوز للإعلام الحر)
جامعاتنا....... بين تغيير الادارات و ادارة التغيير
12/07/2016 - 1:15am

طلبة نيوز- أ.د. هاني أبو قديس

قبل ما ينوف عن عقد و نصف، غادرت القطاع الحكومي للعمل في القطاع الأكاديمي، و حسبتني وقتها أنني أترك قطاعا" مثقلا بالبيروقراطية و الرتابة الى قطاع أكثر مرونة وديناميكية، تحكمه معايير و ضوابط مختلفة. الا أنه و بعد مرور هذا الوقت، أستطيع القول بأن ظني قد خاب، فالمشهد في القطاع الأكاديمي محبط في كثير من تفاصيله.
أسوق هذه المقدمة عشية المخاض العسير الذي تمر به عملية تعيين رئيسي جامعتين من أهم جامعاتنا الوطنية، هما العلوم و التكنولوجيا و مؤته. وقبل ذلك كانت هنالك مخاضات عسيرة لتعيين رؤساء لجامعات وطنية أخرى. وتبرز هنا أسئلة عدة. لماذا تمر عملية تعيين رئيس الجامعة لدينا عبر هذه المخاضات؟ و هل الأطر الناظمة لحوكمة الجامعات لدينا مازالت قاصرة؟ و هل عملية التغيير المستمر و السريع للرؤساء يخدم الجامعات و العاملين فيها ؟
و بالنظر الى أسلوب تعيين رؤساء الجامعات الذي اتبع لغاية الآن، يمكن القول أن العملية يكتنفها الغموض و لاتحكمها أسس و معايير ثابتة و واضحة، و هنالك نوع من التجاذبات بين عدة مراكز لصنع القرار في عملية التعيين. فتارة يتم تعيين شخص بذاته من قبل مجلس التعليم العالي دون منافسة مع آخرين، و تارة أخرى تشكل لجنة على مستوى مجلس التعليم العالي للتنسيب بثلاثة أسماء يتم اختيار أحدها، و في الآونة الأخيرة تم اللجؤ لتشكيل لجان بحث و تقصي من أعضاء يمثلون مجلس التعليم العالي و مجلس الأمناء بالاضافة لشخصيات أكاديمية مستقلة، حيث لاقت هذه الخطوة عند اتخاذها استحسانا من الوسط الأكاديمي.
و اللافت أنه ما أن يتم الاعلان عن شغور منصب رئيس جامعة، حتى تنبري زرافات من الأكاديمين اللاهثين وراء بريق المنصب لارسال سيرهم الذاتية و يلجأ معظمهم لاستخدام علاقاتهم و معارفهم لتلميعهم و الضغط باتجاه تعيينهم. و تشكل اللجان، و تبدأ عملها و تبدأ الضغوطات من قبل عدة جهات لترشيح أشخاص بعينهم، الأمر الذي يؤدي الى وأد الهدف النبيل الذي شكلت من أجله هذه اللجان لاختيار الرئيس المناسب. فاحدى لجان البحث و التقصي قررت اختيار عشرة أشخاص لمقابلتهم، الا أنها بسبب الضغوطات و التجاذبات انتهت بمقابلة أكثر من خمس و عشرين شخصا". 
ثم جاء حل مجلس التعليم العالي في العام المنصرم بطريقة دراماتيكية و بحجة تضارب المصالح، حيث أن أعضاء" في المجلس المنحل أبدوا رغبتهم بالترشح لرئاسة احدى الجامعات و الذي اعتبره صانع القرار في حينها أمرا" غير محمود فلجأ لحل المجلس، و لم يمر أكثر من عدة أشهر على حل المجلس، حتى تم الانقلاب على هذا الأمر في المجلس الحالي، حيث سمح لأحد أعضائه بالترشح لرئاسة احدى الجامعات الخاصة. و ما عملية التصويت في مجلس التعليم العالي قبل عام تقريبا على التجديد من عدمه لأحد رؤساء الجامعات الرسمية و التي أخضعت لجدل و نقاش مطولين حول كيفية احتساب الأصوات الا مثال صارخ آخر على هشاشة المعايير و سهولة تكييفها و تفصيلها على قياس الأشخاص. 
و الغريب في الأمر، أن الكل ينادي بمبدأ استقلالية الجامعات، و أول من ينادي بذلك الأكاديميون أنفسهم، الذين يكافحون من أجل استقلالية جامعاتهم و تحرير قراراتها من الضغوطات التي تمارس عليها، و لكن ما أن يصبح أحدهم وزيرا حتى ينقلب على هذا المبدأ و يتنكر له. و من أبجديات استقلالية الجامعة، أن يؤخذ برأي الهيئات الأكاديمية و الادارية و الطلابية فيما يخص تعيين الرئيس، لنصل في المستقبل الى مرحلة يكون لهذه الهيئات القول الفصل فيمن يتولى قيادة الجامعة من خلال الانتخاب. الا انه و للاسف، فان لا أحد يلقي بالا" لأعضاء هذه الهيئات، فهم مهمشون بالكامل في هذا المجال، و أصبح دورهم في السنوات الأخيرة بسبب كثرة تغييرات الرؤساء توديع رئيس ذاهب و استقبال آخر آت. فبسبب غياب الرؤيا و انهيار منظومة الأعراف و التقاليد الأكاديمية في اختيار القيادات الجامعية، أصبحت الجامعات عرضة لتغيير رؤسائها قبل انتهاء فترة ولايتهم. فهل يعقل أن يتعاقب على رئاسة جامعة رسمية كالتكنولوجيا مثلا ثلاث رؤساء خلال عام واحد؟! ثم نطلب بعد ذلك من الجامعة أن تكون في مصاف الجامعات العالمية!!!. و هل يستوي أن يتنقل رئيس جامعة بين ثلاث جامعات رسمية في ظرف سنتين؟!
و هذه الأيام دخلت مصطلحات غريبة و دخيلة على قاموس الأكاديميا لم يألفها الوسط الأكاديمي، مثل رؤساء الجامعات في مهب الريح و اجراء المناقلات بين رؤساء الجامعات، الأمر الذي قلل من هيبة هذا المنصب وأزال عنه حصانته و وقاره و يعمل على اضعاف الادارات الجامعية. و فضلا عن ذلك فان التغيير المستمر لرؤساء الجامعات يفقد الجامعة استقرارها و توازنها و يضعها في وضع الترقب و الانتظار و يجعل منها أسيرة للشائعات. وعادة ما يكون ما بين انتهاء ولاية الرئيس المغادر و الرئيس القادم فترة انتقالية قد تطول لعدة اشهر، يتم فيها تسيير أعمال الجامعة الروتينية، حيث تدخل الجامعة في مرحلة سبات عميق خوفا من اتخاذ قرارات استراتيجية قد لا تروق للرئيس القادم.
و بعد أن يخرج الدخان الأبيض معلنا الولادة القيصرية للرئيس الجديد، يستغرق الرئيس في تقبل التهاني و التعرف على الجامعة و مكوناتها، و من ثم تبدأ فترة تسديد الاستحقاقات و الفواتير لمن أشرفوا على الولادة القيصرية، فيفرض عليه بعض النواب و العمداء و الاداريين ممن لايستحقون تبوأ هذه المناصب، و يلتف حوله في هذه الأثناء نفر من الطفيليين أصحاب المصالح، يعزلونه عما يحدث على أرض الواقع، و يزينون له قراراته، لينتهي الأمر بالرئيس الى أن يقوم بادارة الجامعة من خلال هذا النفر، و عندها يصاب الجسم الأكاديمي و الاداري بالاحباط و تدخل الجامعة في طورالركود.
و بسبب هذه الممارسات و السياسات ضيقة الأفق، تحولت الجامعات الى منابر لاستحقاقات المحاصصة و الجغرافيا و المناطقية، فبدلا من أن تقود الجامعات مجتمعاتها و تنميها و تؤثر فيها، أصبحت الجامعة تتأثر ببيئتها الخارجية و تعكس تناقضاتها، الأمر الذي أدى الى اعادة انتاج بعض الأشخاص الذين انضموا لنادي رؤساء الجامعات ليقفزوا الى أعلى السلم في الراتب و الرتبة و دون أي اعتبار لمصلحة الجامعات و العاملين فيها.
و عليه فان الأمر يتطلب مداخلات جراحية جريئة، تعمل على اجتثاث الأورام التي تنهك الجامعات و تمنع الطارئين و المراهقين الاكاديميين من الوصول الى مواقع صنع القرار في جامعاتنا الوطنية. و هذا يتم من خلال منظومة تشريعية متكاملة، تؤسس لمرحلة اصلاحية حقيقية، تعمل على مأسسة عملية اختيار رؤساء الجامعات بحيث يصل الى سدة الرئاسة أشخاص يتمتعون بكاريزما قيادية، يمتلكون ناصية التغيير و لديهم القدرة على ادارته. رؤساء يديرون و لايدارون، يحفزون و لايحبطون، رؤساء لديهم رؤى استشرافية يفكرون خارج الصندوق، و يبتعدون عن الأساليب التقليدية في الادارة و يرتقون بجامعاتهم نحو المستقبل بأسلوب مبرمج بعيد عن الارتجال، لجعلها تتأقلم و تتكيف مع المتغيرات المتسارعة التي يفرضها عصر العولمة. جامعاتنا بحاجة لرؤساء ثوريين و مجددين في أفكارهم بعيدين عن الرتابة و الروتين، لديهم برامج و خطط، يأخذون بأيدي الكوادر البشرية في الجامعة ليصنعوا التغيير الايجابي معهم و بهم.
قد يقول البعض بان هذه الأفكار حالمة و مغرقة في المثالية، ولكن المشاريع الناجحة تبدأ بحلم. فمن كان يتوقع بأن حلم مارتن لوثر كنغ الذي أفصح عنه في الستينيات من القرن المنصرم بأن يعيش أبنائه الأربعة في مجتمع لايحكم عليهم من خلال لون بشرتهم قد تحقق، لابل تحقق أكثر مما حلم به كنغ، فتربع على كرسي الرئاسة في البيت الأبيض شخص من أبناء جلدته.
أفلا يحق لنا بعد كل هذا أن نحلم بأن يجلس على كرسي جامعاتنا من تستحقه هذه الجامعات؟

اضف تعليقك

Plain text

  • No HTML tags allowed.
  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Lines and paragraphs break automatically.
Image CAPTCHA
أدخل الحروف التي تظهر بالصورة (بدون فراغات)