TLB News (طلبة نيوز للإعلام الحر)
جامعة مؤتة (طريق حَبَل الشّاعر قديمًا) واختلاط المشاعر
29/05/2020 - 8:15pm

الأستاذ الدكتور طارق المجالي

في الستينيات كنا طلابا في قرية صغيرة على مرمى حجر من سهل مؤتة، ولم يكن في الذهن سوى بقايا صور من الحكايا الشعبية المتوارثة عن غزوة مؤتة، التي امتزج فيها الواقع بالخيال؛ صور شتى عن أبطال المعركة في صدّهم وردّهم ونُثار غبار سنابك خيولهم، وتساقط الشهداء والقتلى، وتطاير الأيدي والرؤوس، وحكايا كبار السن الذين أقنعونا بأنهم كانوا يشاهدون في كل يوم جمعة مناظرمن هذه الواقعة بخيولها وأبطالها، كانوا يروونها لنا بصدق وعفوية، فتمر مجريات المعركة ومشاهدها الواقعية الحيّة عبر ألسنتهمن وتجاعيد وجوههم، ولغة أجسادهم على حواسنا الطريةن كفيلم سينمائيّ من أفلام الأكشن، فنزداد عزمًا وصبرا وجَلَدًا، رغم قسوة المكان والزمان ، على مواصلة مراحل التعليم من تلك القرية الصغيرة( مِرْود) إلى مؤتة البلدة، سيرًا على الأقدام: الشمسُ مظلّتنا، والبرد القارس لحافنا، وفي الجيب قرش أحمر يبكي الوحدة، غذاؤنا على خرزة بئر الجامع القديم، وسط مؤتة، بالقرب من بابور الطحين ، ذلك القرش الذي يساوي في سوق العملات حينها خمس قطع ذهبيّة من البلح، أو شراء حبتي بندورة غير (مُعلّقتيْن) إلا على جدار المعِدة وفي تلافيف الدّماغ، نفرح بتلك التُميرات فرحا عارما مع عدد الطلبة المشرّدين الوافدين من غير مؤتة من القرى المحيطة بمؤتة،عي والعراق وسول والعدنانية ومرود وغيرها،الساعة الثانية تماما فيما كان يُسمّى فُرصة (الرّجعة ) أي قبل الحصة السابعة والأخيرة، فتعطينا تلك البسرات الطّاقة حين نقفلُ راجعين إلى قريتنا، وقبل أن نصلها لنتمكّن من حلّ الواجبات والنسخ، وحفظ ما طُلب منّا من شعر ونثر على حافة بئر (مساعد) مَدرَسَتُنا الخاصّة قبل الوصول.
الطريق إلى مؤتة يوميا محفوفة بالمخاطر لا شارع معبد، ولا معالم أنس واضحة تقطع وحشة الطريق، لا أعمدة ولا إضاءة،غيرحشرات تتقافز بين الأعشاب، وكلاب تهرّ على حوافّ الطريق وتهزّ أذنابها عطشا لأجسادنا الغضّة اللينة، إلى أن ألفتنا وألفناها، وصار بيننا عيش وملح وصداقة تذكرنا بقول الفرزدق :
تعشّ فإنْ عاهدتني لا تخونني نكُنْ مثلَ من يا كلبُ يصطحبانِ 
وليس أمامنا من خيار، ببناطيلنا المرقّعة، ووجوهنا الصفيقة، إلا أن نكون أمام سارية العلَم عند السّاعة السابعة صباحاً .
ومن المفارقات السّاخرة بعد كل هذه الرحلات المكوكيّة اليوميّة، حباني أبي واصطفى ولده المدلّل برحلةً إضافيّة عند رأس كلّ شهر في يوم الجمعة لشمّ النسيم ولكن إلى طحن ( الطّحنة الشهرية في بابور مؤتة!!) فهو يومٌ ولا كلّ الأيام، تُعلنُ فيه العائلةُ النّفيرَ العامّ ؛ فالحمارُ، أكرمتم، مربوطٌ معلوفٌ واقف على عتبة الدار في كامل هيئته ومستلزماته، وهاهي العائلة كلّها تتجهز لوداع الحمار والطّحان، بعد أن تعاضدوا شوال القمح ذا الخط الأحمر لنسْفِهِ على ظهر الحمار، وبما أن الطريق صعبة وعرة شاقّة موحشة، كان لا بدّ من أن نخترع طرقا فرعية ،وكلها طرق ترابية فرعية، للوصول إلى مؤتة. الطرق محاذية لمباني رئاسة جامعة مؤتة حاليا، أو ما كنّا نسميه ب (حَبَل الشّاعر) فهو الخط السريع الموصل، والحَبَلة هي الأرض المنخفضة قليلاُ لكنّني أستغرب لأمر هذا الشّاعر المجهول الذي مرّ من هناك، وما الذي جاء به؟ فبقي مجهولا، وضاع ولم يعرفه أحد. 
عند حَبَل الشّاعر( مباني الجامعة) أصاب حماري فورةً من النّشاط والحيويّة عندما رأى محبوبته تطلّ عليه عن كثب باشتياق ، فتذكّر قولَ قيس بن الملوّح:
بَرى حُبُّها جِسْمِي وَقلبِي وَمُهْجَتِي فلم يبق إلا أعظمٌ وعُروقُ
فكان لقاء الأحبة سببًا في سقوط ما على ظهر الحمار من مؤونة أهلي، فأخذت أصيحُ وأولول :
وكلّ ما كان كأنْ لم يكـــــــن وكلّ ما حذّرتهُ قــــــــد أتى
وأذكر أن الحمار التقى بأتانِهِ، أما أنا فاتكأتُ على الكيس أندبُ حظّي التعيسُ ونسيت لقائي بطحاّنِهِ، ومكثتُ ساعاتٍ طوالاً لم أسمع حسّا ولا جنسا ولا بشرا يخفّفُ من بلواي وشكواي ويسليني بسلواي، عندها تركتُ الحمار والقمح، وقفلت راجعا إلى أهلي، فملأوا كيسي ذاماً وقدحا، وحشوا عينيّ كمدا وقرحا.وظلّوا على هذا ردحا.
هذه نتف من ذكريات (حَبَل الشَاعر/جامعة مؤتة حاليا) ودار الزمن دورته، وأخذ يخفي عورته إلى أن رأيتُ بعد بضع سنين في موقع الجامعة تلالا من الحصى و الرمال وجبالا من الاسمنت وأفواجا من البنائيين والعمال الصينيين تغزو تلك الأراضي بعد أن صدرت الإرادة الملكية بإنشاء جامعة مؤتة بجناحيها العسكري أولا فالمدنيّ، ونهضت الجامعة منارة وغدت مَعْلَما من معالم نهضة هذا الوطن الحبيب، ما كان لها من أثر تنموي واجتماعي وثقافي كبير على مستوى المحافظة والوطن والأقليم.
فإذا استعرضتم أحبائي خريجي جامعة مؤتة ذكرياتِكم وأنتم بين قاعاتها وممراته وساحاتها وختبراتها وحفلاتها ومجالس الأنس ومراتع الصبا والشباب، فاذكروني وذكّروني، لأنكم تعرفونها أبنيةً وساحاتٍ وصداقاتٍ وأضواءً وبهجة ، أما أنا فأعرفها أضواءً أضاءت نفسي، في كل حجر بشر، وفي كل وردة نهر من الشوك، وفي كل لسعة برد في ردهاتها عاصفة من حنين تاريخ الثلجة الكبيرة، وفي كل مدرج فاخر سهل من السنابل والخبيزة وأثافي إبريق الشاي والحطب وهي كلها التي جعلتني ،بكامل زهوي، أقف اليوم أستاذا فيها، أتذكّر كيس قمحي الأول الذي سقط مني في قاعات تدريسي أمام اللوح وذلك الحمار العاشق، فتتملكني غيْرةٌ جامحةٌ مِن كلّ ما أمامي من: ألواح وطباشير وجدران ومسامير ومدرّجات وقاعات تلك التي تحاول أن تسرق حَبَل الشّاعر وجامعتي من ذاكرتي. 

اضف تعليقك

Plain text

  • No HTML tags allowed.
  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Lines and paragraphs break automatically.
Image CAPTCHA
أدخل الحروف التي تظهر بالصورة (بدون فراغات)