TLB News (طلبة نيوز للإعلام الحر)
دروس "الربيع" * د. أحمد يعقوب المجدوبة
21/09/2014 - 7:00am

طلبة نيوز-

 لا بدّ للعالم العربي، بثالوثه المكون من الأنظمة والمعارضة والشعوب، من الخروج معاً من مأزق "الربيع"، دون تدخل أي طرف كان. وحتى يتمكن من فعل ذلك وجب عليه أخذ العبرة مما حصل ويحصل أولاً، ومن ثم بلورة صيغة للتوافق والمضي قدماً.
الدروس كثيرة. أذكر منها على عجالة ما يأتي: 
أولاً، ليس كلّ ما حدث في "الربيع" سلبياً. فالبداية كانت غاية في الإيجابية، لحظة تاريخية ثمينة آتت أكلها وإن لم تُستثمَر على النحو المرجو. أنظمة شمولية قمعية مستفحلة تهاوت في غضون أسابيع، في تونس ثم مصر ثم اليمن. رفع المنتفضون شعار إصلاح النظام، ولمّا لم تستجب الأنظمة تحولوا إلى "اسقاط النظام" ونجحوا. أصروا وكان لهم ما أرادوا. إذاً النتيجة المباشرة تحققت، و"الربيع" في بدايته كان ربيعاً بحق.
ثانياً، سقطت الأنظمة في دول الربيع على يد الشعوب ولم تسقط على أيدي الأحزاب، بما في ذلك أحزاب "المعارضة"، ولا القوى الخارجية. مُفجّر الشرارة ، بوعزيزي، لم يكن حزبياً ولا معارضاً ولا تابعاً لأحد، وكذلك الحال بالنسبة لعشرات الآلاف من النشطاء.
ثالثاً، لم تخرج الشعوب للشوارع بتحريض من أحد، سواء من الداخل أو من الخارج. فعلتها بعفوية وردة فعل غريزية بسبب تردي الأوضاع والظلم والرغبة في حياة أفضل، ولأنها لم تعد تحتمل. طفح الكيل. قصة بوعزيزي، مرة أخرى، هي تجسيد حيّ لحالة الإحباط واليأس والغضب التي أصابت الشعوب نتيجة لعشرات السنوات من القهر والقمع والتهميش والعبث والفساد.
رابعاً، سلكت الشعوب في مسعاها للتغيير المسلك الصحيح: التظاهر والاعتصام والمطالبة بالحقوق عن طريق الكلمة. كان نهجها اللاعنفي، والمبني على الانضباط والسلمية، برقي نهج مهاتما غاندي ومارتن لوثر كنغ، مما أثار إعجاب العالم وجعل بعض الشعوب تنتفض على الطريقة العربية. يُسجّل لشعوب "الربيع" أنها لم تمارس العنف. نُذّكر أن بوعزيزي المسكين عندما لجأ للعنف وجهه نحو نفسه.
خامساً، التغيير الذي ينشد البناء والتطور لا يكون بالعنف. والثورة الحقيقية تبنى على الفكرة والرؤية والكلمة والفعل السّلمي المنظم، لا على العاطفة الهوجاء والتخريب والهدم. فالكلمة أقوى وأنجح وأنجع من البندقية والمدفع . لقد فعلت كلمة "ارحل" التي رفعها جيل راق من الشباب بعزم وتصميم ما عجزت عنه جيوش وأنظمة ودول. سيسجل التاريخ أن خلع الأنظمة القمعية جاء عن طريق الثورات الشبابية السلمية، وعندما تم اختطاف ثورة الشباب وتم اللجوء إلى العنف تعقدت الأمور وأعطيت الأنظمة إما مبرراً للبقاء أو للعودة للساحة من جديد، وغرقت البلاد في جحيم من الفوضى والدم. ولقد أثبت العالِم والطبيب "غاري سلتكن" أن العنف كالوباء، إذا تفشي انتشر كالنار في الهشيم، لا يبقي ولا يذر. آفة العالم العربي الآن الفوضى والعنف.
سادساً، الذين لجأوا للعنف في حينه وفيما بعد هم إما أشلاء الأنظمة في تلك الدول أو أنظمة قمعية في بلدان عربية أخرى دخلت المشهد لاحقاً أو أحزاب المعارضة المتحالفة مع دول إقليمية متطرفة لها أطماع وأهواء وأجندات خاصة أو دول عربية "شقيقة" تدخلت في قضايا دول عربية أخرى، أو دول أجنبية لديها خطط ومشاريع إمبريالية استعمارية، يُحرّكها العامل الاقتصادي بالدرجة الأولى، أو كل ما ذكر.
سابعاً، اختطاف المعارضة ودول الاقليم والقوى الاستعمارية للمشهد أفسد الربيع، ثم قتله. قتل الربيع عندما أطلِقت أول رصاصة وعندما سمح للدول المستعمِرة والدول الطامعة من الإقليم بالتدخل في شؤون الدول العربية، وعندما قامت دول عربية بالتدخل والتآمر على دول عربية أخرى. وذلك من المحرمات. 
ثامناً، "المعارضة" بأطيافها المختلفة (من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، العلمانية منها والمتسترة زوراً ونفاقاً خلف الدين) لا تُمثل الشعوب، بل تمثل نفسها وتسعى لتحقيق أحلامها الضيقة ومطامع من يقف وراءها. والشعوب منها براء. معارضة يقودها ساسة صغار العقول أو قراصنة وصعاليك، قُطّاع رؤوس وطرق، رموا أنفسهم في أحضان الدول الطامعة من الإقليم أو الدول الاستعمارية واستمدوا شرعيتهم وبقاءهم منها، لا يمتوا للشعوب بصلة. وهي منهم براء. 
تاسعاً، عندما انسحبت الشعوب من الساحة، وتركتها للأنظمة والمعارضة وقوى الشّر والإجرام فعلت ذلك من منطلق أن التّحول الكارثي الذي تم والتطورات المرعبة التي تبعته، مرفوضة كلياً. ومن هنا وبسبب رقيهم وخوفهم على بلدانهم، حتى لا يؤخذ عليهم أنهم ساهموا في الأذى، انسحبوا من المشهد كاظمين الغيظ ساكتين على مضض. لكن انسحابهم لا يعني رضىً بالواقع وهو ليس غياباً أبديا؛ إنه انسحاب فقط.
عاشراً، مازال هنالك بصيص أمل للخروج من المأزق. من مصلحة الأنظمة والمعارضة والشعوب داخل الدولة الواحدة أن يُنبَذ العنف ويَبدأ حوارٌ سلميّ جاد للتوصل إلى صيغة توافقية، تُحتَرمُ في إطاره تعددية الرأي والمعتقد والمذهب والعرق والجنس والنوع. لن تكون هنالك سطوة لحزب واحد أو جماعة بعينها أو فئة مهما بلغ عددها، فجميع الفئات والأطياف يجب أن تُمثل.
ومن مصلحة الدول العربية، والتي غدت ممزّقة متناحرة كالقبائل في الجاهلية، التّوقف عن التدخل في الشؤون الداخلية لدول شقيقة وأن تعقد صلحاً فيما بينها وتعمل على تفويت الفرصة على الدخلاء عليها والمتدخلين في شؤونها من الخارج من أجل بناء عالم عربي جديد، قوامه التفاهم والتعاون والتكامل والحياة الأفضل للشعوب التواقة لذلك.
 وهذا ليس حلماً بعيد المنال، فنحن على يقين من أن الدول العربية ستفعل ذلك لا محالة، عاجلاً وليس آجلاً، لسبب واحد، لا ثاني له: بقاؤها. 
ويُعزز القراءة الأخيرة هذه أن دولة الربيع الوحيدة المعوّل على حدوث نقلة إيجابية فيها، ونقصد بذلك تونس، هي التي استوعبت معظم الدروس أعلاه. فهي لم تغرق في بحر من الدم والعنف، ولم تسمح بالتدخل العربي أو الخارجي فيها، ويحاول ثالوث الشعب والنظام والمعارضة فيها إيجاد صيغة تفاهم وتعايش ثم استقرار وتقدم نحو الحرية والديمقراطية والنهضة. مثلما شكّلت الحالة الليبية المنعطف السلبي في الربيع، باللجوء إلى العنف والسماح  بالتدخل الخارجي، قد تكون الحالة التونسية هي نقطة التحول الإيجابي. 
التغيير إذاً لا يكون بالعنف، ولا بالعاطفة، ولا بساسة صغار العقول أو معارضة مأجورة ولا بالسماح لدول طامعة من الإقليم وخارجه بالتّدخل، ولا بتدخّل دول عربية في شؤون دول عربية أخرى. التغيير يكون بالأساليب السلمية والتفاهم وإشراك الجميع والوفاق.

اضف تعليقك

Plain text

  • No HTML tags allowed.
  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Lines and paragraphs break automatically.
Image CAPTCHA
أدخل الحروف التي تظهر بالصورة (بدون فراغات)