تسقط الأمّة عندما تتخلّى عن مقدّساتها وعن جوامعها المشتركة، ونحن العرب لا نتردد في هذه الأيام المجاهرة في التخلّي عن أعزّ مقدّساتنا وأهمّ قيمنا وجوامعنا المشتركة؛ فمنذ سبع وأربعين سنة والقدس الشريف ترزخ تحت الاحتلال الصهيوني، وفي كلّ يوم يقوم الاحتلال الصهيوني بممارسات جديدة ضدّ مقدّساتها من حفر وتجريف وتهديم وتدنيس في الوقت الذي تتراجع فيه الحميّة العربيّة إزاء ذلك تراجعاً جليّاً. وبذلك يكون ركنٌ أساسيّ من أركان ثبات الأمّة وصمودها قد تداعى، وكم من تراثٍ مقدسٍ قد استبيح في أوطاننا العربيّة في هذه الأيّام!؟
وبالأمس وبينما كنت أتابع إحدى الفضائيات استوقفني صوتٌ نشازٌ ومثير للفزع من حشد كبير من المتظاهرين يهتفون بأعلى أصواتهم: دوسوا على الوحدة دوسوا بكلّ الأقدام!
كان المتظاهرون يدعون إلى انفصال جنوب اليمن عمّا أسموه (الاحتلال الشمالي) ويطالبون بإنهاء الوحدة بين اليمنين! فقلت في نفسي: هذا هو الركن الثاني من أركان صمود الأمّة يتداعى أيضاً، وتساءلت: هل كان لأحد قبل هذه السنوات العجاف أن يدعو ضدّ الوحدة أيّ وحدة وفي أيّ مكانٍ من الوطن العربيّ من محيطه إلى خليجه؟!
لقد كانت الدعوة إلى وحدة الأمّة أو الوحدة الوطنية في أي قطر عربيّ هي حلمنا الذي نستند إليه كلّما داهمنا اليأس من سوء أحوال هذه الأمّة، وكانت الوحدة وما زالت هي أملنا في الخلاص من كلّ ما نعاني منه من فقر وجهل وتبعية واستبداد واحتلال! والآن يظهر من بيننا من يجاهر بالدعوة إلى الدوْس على الوحدة. ما الذي كان يمنعهم من المطالبة بتعزيز وحدة اليمن على أسس من العدل وسيادة القانون واستلهام التجارب العصرية الناجحة في إدارة الدول؟! وما الذي كان يمنعهم من المطالبة بتغيير النظام حتى تتحقق لهم آمالهم وتطلعاتهم بدلاً من المطالبة بتمزيق الوطن إلى أشلاء؟! أم يرضيهم أن تكون تجربة تمزيق السودان وتمزيق العراق وتمزيق ليبيا وتمزيق سوريا نماذج لهم، ويا لها من نماذج ما أسوأها وأشدّ ضررها على تلك الأقطار وعلى الأمّة كافّة!
إنّ الانسياق وراء مثل هذه الدعوات التمزيقية والانفصالية وتأييدها أو السكوت عليها سوف يقود في مقبل الأيّام إلى مطالبة كلّ مختار في قرية صغيرة أو حيٍّ من قرية بالانفصال والاستقلال ورفع علمه الخاصّ وإعلان جميع ما عداه من الناس إرهابيّين وقتلة!