TLB News (طلبة نيوز للإعلام الحر)
صناعة الاعتقاد والدبلوماسية الرقمية
31/10/2018 - 5:00pm

طلبة نيوز-
بقلم: المهندس عامر عليوي/ جامعة العلوم والتكنولوجيا الاردنية

يقول الناقد والمفكر الأمريكي "نعوم تشومسكي"، في اجابته على سؤال: كيف يؤثر الإعلام علينا نفسيا بهذا الشكل؟ أجاب ليس كل ما يُقال في الإعلام تصدقه، ولا يمكن النظر إليه على أنه يمثل الحقيقة الكاملة. ويروي في كتابه "السيطرة على الاعلام" قصة تأثير أداة البروباغندا (الاشاعة) وكيف لعبة دورا في الحرب العالمية الأولى لأقناع الشعب الأمريكي بالحرب ضد ألمانيا ليشير بعدها -في سياق فضح الاشاعة- إلى نظرية "والتر ليبيمان" التي تبحث في كيفية صناعة الإجماع الشعبي تجاه شيء كان مرفوضا من الأساس، حيث يقسم "ليبيمان" المجتمع إلى طبقتين: الأولى هي عامة الشعب المتلقي والمُوجَّه، والثانية هي النخبة الصغيرة (المتخصصة)، والتي تتحكم في الاقتصاد والسياسة -والأيديولوجيا بطبيعة الحال- وهي التي تصنع الإجماع عبر أداة الإعلام.
ويقول "لورانس دي ريتا"، كبير الناطقين باسم البنتاجون في بدايات الألفية الثالثة: "إن المعركة القائمة لتغيير الوعي يستخدم فيها الخصم الإعلام بشكل واضح للتأثير في وعي الجماهير، ودورنا يجب ألا يقوم على تغيير الوعي، ولكن مواجهة ما يقوم به الخصم لتغيير الوعي العام".
وأطلق الامريكي "إدوارد بيرنيز" ابن أخت عالم النفس الشهير "فرويد" في منتصف القرن الماضي مفاهيم عالمية بخصوص "البروباغندا"، مثل هندسة الإجماع أو هندسة الموافقة، خرج بها "بيرنيز" من أفكار "فرويد"، تحولت فيما بعد إلى ركن من أركان العمل السياسي البروباغندي حول العالم ، وعمل "بيرنيز" على جمع كل نظريات خاله المتعلقة بالنفس الإنسانية، ورغباتها، واحتياجاتها وحتى أحلامها، ووضعها في سلسلة من العمليات التجارية في السوق العالمي، وتلاعب بعقول البشر وعواطفهم من خلال نتائج التحاليل النفسية الخاصة بنظريات "فرويد"، واستخدم تقنيات علم النفس للسيطرة على الشعوب، والتلاعب بقدراتهم على اختيار قرار ما، لتسيّيرهم في مسار اُختير لهم في الأصل، وجعلهم فقط أدوات لتحقيق رغبات لا علاقة لها برغباتهم الأصلية. ومن هنا خرج الوجه الحقيقي للأعلام، وهو ما يُسمى بالبروباغندا.
لقد قضت الثورة الرقمية على الحدود الجغرافية وتخطت الدول، والجنسيات، والثقافات، وفتحت المجال للسوشال ميديا لتجسيد مفهوم القرية العالمية في أرض الواقع، وأصبحت وسائل الإعلام في القرن الحادي والعشرين "تفبرك" الواقع أكثر مما تقدمه وتنقله للناس كما هو، وصار الكلام عن الموضوعية والشفافية والبراءة بتقديم الأحداث والاخبار وعرض الأزمات ضربا من الخيال، وهذا دفع بأجهزة الاستخبارات للدول العظمى لرصد وتحليل وقياس كل ما من شأنه التأثير على الرأي العام الذي يعتبر المفتاح الاكبر للثورات والانتفاضات ، ذلك لأن غليان الرأي العام وتغيير المعتقدات يؤدي الى التجمعات والتظاهرات والاحتجاجات والتي تمتلئ بالشرارات التي تشعل الثورات.
وفي ظل هذه الثورة الرقمية أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي ذات أهمية استراتيجية لسهولة التعامل معها وسرعة انتشار الاخبار والاحداث من خلالها وباتت تلعب دورا رئيسا في عملية تشكيل وصناعة المعتقدات، والراي العام للشعوب الامر الذي استقطب اهتمام القوى الفاعلة (السياسية، الاقتصادية، الإعلامية، الدينية) للعمل على تشكيل القناعات والرأي العام وفق معايير ومقاييس تخدم وجهة نظرها ورؤيتها للأحداث بما يخدم مصالح كل منها، وتتصارع هذه القوى احيانا للسيطرة على صناعة الاعتقاد وتتحالف حينا آخر، طبقا لمصالح وأولويات تخص كلاّ منهم.
لقد ساعد انتشار ما يسمى بإعلام الموبايل (السوشال ميديا) في التأثير ببناء القناعات لدى الشعوب والافراد من خلال التكرار، حيث تتيح هذه الوسائل للقوى الفاعلة من تقديم رسائل إعلامية متشابهة ومتكررة حول قضية معينة ، أو موضوع ما، أو شخصية محددة، بحيث يؤدي هذا العرض التراكمي المتكرر إلى التأثير على المتلقي دون إرادة منه شاء أم أبى ومهما كانت قوة حصانة المتلقي ضد هذه الرسائل الإعلامية الموجهة، مما يؤدي الى تسيير لا إرادي للمتلقي وتأثير شامل عليه، بمعنى أن الإعلام يحاصره من كل الجهات وفي كل الأماكن والاوقات، مما يؤدي إلى تقليل فرصة المتلقي في أن يكون لنفسه رأيا مستقلا حول القضايا المثارة، وبالتالي تزداد فرصة "إعلام الموبايل" في تكوين الأفكار والاتجاهات المؤثرة في الرأي العام، وفى سلوكيات الأفراد والمجتمعات، واصبحنا نعيش في عالم شبيه بغمامةٍ سوداء كبيرة، كُل شيءٍ فيها ضبابي، شبيهة بسراب الصحراء الذي يبدو للناظر كشيء، وعندما تقتربُ منه لتلمسه يتحول إلى شيءٍ مغايرٍ تماماً، أضحى الناس يتعرضون لحملات خداع منظمة من قبل الوسائل الإعلامية المختلفة، ولا سيّما المستخدمة بإعلام الموبايل .
وأسهمت وسائل التواصل الاجتماعي في تشكيل قبائل من نوع جديد (قبيلة الفيس بوك، قبيلة التويتر، قبيلة الواتس آب وغيرها) تضم بداخلها كيانات وعائلات يربطها العالم الافتراضي، انتقل الفرد فيها من روابط القبيلة إلى روابط وسائل التواصل الاجتماعي، وجرى تغيير ثنائية "العصبية القبلية" إلى "العصبية الافتراضية"، الامر الذي أدى الى ان تصبح "العصبية الافتراضية" تمثل عماد قوة تأثير وسائل التواصل الاجتماعي بصناعة الاعتقاد(هندسة الموافقة)، فالرأي العام يتحول بشكل كبير الى عامل ضغط بالضد لمن يقف في وجهه، لذا تنبهت بعض من أجهزة الاستخبارات في بعض الدول لضرورة مراقبة وقياس الرأي العام لما له من تأثير بالغ على المجتمعات، وقامت بذلك عبر المراقبة وعمل الاستبيانات ودراسة الأخبار وتحليل نفسية ومزاج المواطنين ومستوى الدور والنجاح او الإخفاق الحكومي، وتنبهت هذه الأجهزة المحترفة لأهمية دورها في التدخل بصناعة الرأي العام وتوجيهه وفق ما يخدم مصالحها او مصالح الدولة العليا، ووعت الأجهزة الأمنية لهذه الدول بأن كسب ود الرأي العام هو بمثابة حرب بين صناع الرأي العام للتأثير على الأغلبية الصامتة ذات القدرة التدميرية الهائلة.
وهذا أيضا يدفعنا كأفراد بان نجلس مع انفسنا جلست تأمل تمكننا من تحديد المصدر الرئيسي لأفكارنا ومعلوماتنا وقناعاتنا، ومن
ثم الاجابة عن الأسئلة التالية:
 ما الذي يضمن أننا لم نتعرض إلى خديعة، بل خدع كثيرة؟
 ما الذي يمنع أن تكون سلوكياتنا وردود أفعالنا في مجالات متعددة متأثرة –لا شعوريا- بما نتلقاه يوميا من رسائل إعلامية تصلنا عبر الهاتف صيغ أكثرها بعناية فائقة لتحقق هدفا واحدا هو: إعادة برمجتنا على النحو الذي يتوافق مع مصالح جهات معينة؟
فلنفكّر جيداً في كل الصور، والمشاهد، والإعلانات، والشعارات، التي تُزرع يومياً في رؤوسنا، ونتحول إلى مستهلكين جيدين لها.

خلاصة القول، يبدو اننا نعيش في حالة حرب ممنهجة ومدروسة بعناية فائقة لصناعة الاعتقاد (هندسة الموافقة) للتحكم بالبشر والسيطرة على المجتمعات وهذا يلزم الدول لحماية شعوبها من أخطار صناعة الرأي العام ومواجهة تطرف وفساد القائمين على تلك العملية، وهذا يتطلب من الدولة اتقان وتبني مهارة ما يسمى "بالدبلوماسية الرقمية"، فهو مفهوم جديد بدأ مع الانتشار الواسع لشبكات التواصل الاجتماعي، والدور الذي بدأت تلعبه هذه الشبكات في التأثير الثقافي والفكري في حياة المجتمعات، مما شكّل فرصة أمام الدول لاستخدام هذه القنوات التكنولوجية من أجل تعزيز علاقاتها ونفوذها على الحكومات والشعوب الأخرى.
فالدبلوماسية الرقمية اليوم أصبحت من أهم أدوات الدبلوماسية لأي دولة، وهو ما تأخذه الدول العظمى على محمل الجد، فوزارة الخارجية الأمريكية مثلاً، بلغ عدد حساباتها على تويتر أكثر من 300 حساب يتم التغريد عليها بـ 11 لغة مختلفة، ولها حوالي 400 صفحة على " فيس بوك " ووصل عدد الدبلوماسيين الأمريكيين الذين يستخدمون الدبلوماسية الرقمية حوالي 1000 دبلوماسي. واحتفلت وزارة خارجية الكيان الاسرائيلي مؤخراً بحصولها على المرتبة الرابعة عالمياً كأقوى ارتباط رقمي مع العالم، معربة عن آمالها بنيل مرتبة الصدارة في هذا المجال، حيث تمكّنت إحدى الصفحات الإسرائيلية على فيسبوك بجذب أكثر من 1.6 مليون متابع عربي، فيما بلغ عدد المتفاعلين مع القنوات الإسرائيلية على الشبكة الاجتماعية بما يقرب من 220 مليوناً من العالم العربي وبحسب موقع القناة الثانية الإٍسرائيلية، فأن منشورات "أفيخاى أدرعي" المتحدث الرسمي باسم الجيش الاسرائيلي تصل يوميًا لـ60 مليون مستخدم عربي، عن طريق صفحتي "فيس بوك وتويتر"، حتى لو كانوا يهاجمونه فيكفى أن كل هذا العدد يحرص على متابعته.
في ظل هذا التسارع الذي نشهده، آن الأوان أن تتقن الدولة "الدبلوماسية الرقمية" ويكون لها حضور على "الشبكة الدبلوماسية الافتراضية" وتتخذ أجهزتها المختلفة إجراءات فاعلة في تطوير أدوات تواصلها داخليا وخارجيا لمواجهة الصراع الافتراضي، وأخذه على محمل الجد، إذ أن تغيّر معطيات الميدان الاعلامي يتطلب ان تعي الدولة أهمية وسائل التواصل الاجتماعي واعلام الموبايل، وتأثيرهما في الأمن الاجتماعي والاستقرار الداخلي، حيث أصبح "البعد الإلكتروني" و "السيادة الافتراضية" عامليين رئيسيين حيويين ضمن منظومة الأمن القومي للدول.
ولنتذكر دائما أن إقناع الناس بالأفكار ليس شيئًا بعيد المنال، ولكنه يحتاج إلى فن وفكر ومهارة، فالناس يمكنهم أن يتخلوا عن أفكارهم إلى أفكارك بمحض إرادتهم إذا أقنعتهم بها، فتغيير القناعات لا يمكن حصوله بالضغط أو بالإلزام أبدًا، بل تتغير القناعات بالرضا والقبول، وبالإثبات والبرهان، وبالجاذبية والتقريب، والفاشل في ذلك هو المجادل المحترف، الذي يجادل عن رأيه دائما، ويعتمد على الاستغفال والاستخفاف بالقدرات العقلية للناس والسخرية من آرائهم لإقناعهم، وما هو بفاعل ولو ظل يجادلهم ألف عام.

اضف تعليقك

Plain text

  • No HTML tags allowed.
  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Lines and paragraphs break automatically.
Image CAPTCHA
أدخل الحروف التي تظهر بالصورة (بدون فراغات)