طلبة نيوز
أخرجا في " الصحيحين " من حديث ابن عباس ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند
الكَرْب: " لا إلهَ إلا اللهُ العَظِيمُ الحَلِيمُ ، لا إلهَ إلا اللهُ ربُّ العرشِ العَظِيمُ ، لا إلهَ إلا اللهُ رَبُّ السَّمَواتِ
السَّبْع ، ورَبُّ الأرْض رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمُ " .
وفي " جامع الترمذيِّ " عن أنس ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، " كان إذا حَزَبَهُ أمرٌ ،
قال: " يا حَيُّ يا قَيُّومُ برحمتِكَ أستغيثُ " .
وفيه عن أبي هُريرة: " أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، كان إذا أهمَّهُ الأَمْرُ ، رفع طرفه إلى السماء
فقال: " سُبْحَانَ الله العظيمِ " ، وإذا اجتهد في الدعاء قال: " يا حَيُّ يا قَيُّومُ " .
وفي " سنن أبي داود " ، عن أبي بكر الصِّدِّيق ، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دَعَواتُ
المكروبِ: اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أرجُو ، فَلا تَكِلْنِي إلى نَفْسي طَرْفَةَ عَيْنٍ ، وأصْلِحْ لي شَأني كُلَّهُ ، لا إله إلا
أنْتَ " .
وفيها أيضاً عن أسماء بنت عُمَيس قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا أُعلِّمُكِ
كلماتٍ تقوليهِنَّ عِنْدَ الكَرْبِ أو في الكَرْبِ: " اللهُ رَبِّي لا أُشْرِكُ به شيئاً " . وفي رواية أنها تُقال سبعَ
مرات .
وفي " مسند الإمام أحمد " عن ابن مسعود ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: " ما أصابَ عبداً
هَمٌ ولا حُزْنٌ فقال: اللَّهُمَّ إنِّي عَبْدُكَ ، ابنُ عَبْدِكَ ، ابنُ أمتِكَ ، ناصِيَتي بيَدِكَ ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ ، عَدْلٌْ
فيَّ قضاؤكَ ، اسألُكَ بكل اسْمٍ هُوَ لكَ سَمَّيْتَ به نَفْسَكَ ، أو أنزلْتَه فِي كِتَابِكَ ، أوعَلَّمْتَهُ أحداً من خَلْقِك
، أو استأثَرْتَ به في عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ: أن تَجْعَل القُرْآنَ العظيم رَبيعَ قَلْبِي ، ونُورَ صَدْري ، وجِلاءَ
حُزني ، وذَهَابَ هَمِّي ، إلا أذْهَبَ اللهُ حُزْنَه وهَمَّهُ ، وأبْدَلَهُ مكانَهُ فرحاً " .
وفي " الترمذيِّ " عن سعد بن أبي وَقَّاص ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " دعوةُ ذي
النُّون إذْ دَعَا رَبَّهُ وهو في بَطْنِ الحُوتِ: { لاَ إلهَ إلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } ، لَمْ يَدْعُ
بها رجلٌ مسلمٌ في شيءٍ قَطُّ إلا اسْتُجِيبَ له " .
وفي رواية: " إنِّي لأعلمُ كِلْمَةً لا يقولُهَا مكْروبٌ إلا فرَّج الله عنه: كَلِمَةَ أخي يُونُس " .
وفي " سنن أبي داود " عن أبي سعيد الخدري ، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم
المسجد ، فإذا هو برجل من الأنصار يُقالُ له: أبو أُمَامة ، فقال: " يا أبا أُمامة ، ما لي أرَاكَ في
المسجدِ في غَيْرِ وَقْتِ الصَّلاةِ " ؟ فقال: هُمومٌ لَزِمَتْني ، وديونٌ يا رسولَ الله ، فقال: " ألا أُعَلِّمُكَ
كلاماً إذا أنت قُلْتَهُ أذهبَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ هَمَّكَ وقَضَى دَيْنَكَ " ؟ قال: قلتُ: بلى يا رسول الله ، قال: "
قُلْ إذا أصْبَحْتَ وَإذَا أمْسَيْتَ: اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ من الهَمِّ والحَزَنِ ، وأعوذُ بِكَ من العَجْزِ والكَسَلِ ،
وأعوذُ بِكَ من الجُبْنِ والبُخْلِ ، وأعُوذُ بِكَ من غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَال " ، قال: ففعلتُ ذلك ، فأذهب
الله عَزَّ وجَلَّ هَمِّي ، وقَضي عني دَيْنِي .
وفي " سنن أبي داود " ، عن ابن عباس ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَن لَزِمَ
الاستغفارَ ، جَعَلَ اللهُ لَهُ من كلِّ هَمٍّ فَرَجاً ، ومِن كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجاً ، ورزَقَهُ مِن حَيْثُ لا يَحْتَسِب "
وفي " المسند " : أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا حَزَبَه أمرٌ ، فَزِعَ إلى الصَّلاة ، وقد قال
تعالى: { وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالْصَّلاَة } وفي " السنن " : " عَلَيْكُم بالجِهَادِ ، فإنَّه بابٌ مِن أبوابِ
الجَنَّةِ ، يدفعُ اللهُ به عن النُّفُوسِ الهَمَّ والغَمَّ " .
ويُذكر عن ابن عباس ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: " مَن كَثُرَتْ هُمُومُهُ وغُمُومُهُ ، فَلْيُكْثِرْ مِنْ
قَوْلِ: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلاَّ باللهِ " .
وثبت في " الصحيحين " : أنها كَنزٌ من كنوز الجَنَّة .
وفي " الترمذي " : أنها بابٌ من أبواب الجَنَّة .
هذه الأدوية تتضمَّن خمسةَ عشرَ نوعاً من الدواء ، فإن لم تقو على إذهاب داءِ الهَمِّ والغَمِّ والحزن ،
فهو داءٌ قد استحكم ، وتمكنت أسبابه ،ويحتاج إلى استفراغ كُلِّي . .
الأول: توحيد الرُّبوبية .
الثاني: توحيد الإلهية .
الثالث: التوحيد العلمي الاعتقادي .
الرابع: تنزيه الرَّب تعالى عن أن يظلم عبده ، أو يأخذه بلا سبب من العبد يُوجب ذلك .
الخامس: اعتراف العبد بأنه هو الظالم .
السادس: التوسُّل إلى الرَّب تعالى بأحبِّ الأشياء ، وهو أسماؤه وصفاته ، ومن أجمعها لمعاني
الأسماء والصفات: الحيُّ القَيُّوم .
السابع: الاستعانة به وحده .
الثامن: إقرار العبد له بالرجاء .
التاسع: تحقيقُ التوكلِ عليه ، والتفويضِ إليه ، والاعترافُ له بأنَّ ناصيتَه في يده ، يُصرِّفُه كيف
يشاء ، وأنه ماضٍ فيه حُكمُه ، عدلٌ فيه قضاؤه .
العاشر: أن يَرتَعَ قلبُه في رياض القرآن ، ويجعلَه لقلبه كالربيع للحيوان ، وأن يَسْتَضِيءَ به في
ظُلُماتِ الشُّبهات والشَّهوات ، وأن يَتسلَّى به عن كل فائت ، ويَتعزَّى به عن كل مصيبة ، ويَستشفِيَ
به من أدواء صدره ، فيكونُ جِلاءَ حُزْنِه ، وشفاءَ همِّه وغَمِّه .
الحادي عشر: الاستغفار .
الثاني عشر: التوبة .
الثالث عشر: الجهاد .
الرابع عشر: الصلاة .
الخامس عشر: البراءة من الحَوْل والقُوَّة وتفويضُهما إلى مَن هُما بيدِه .
بيان جهة تأثير هذه الأدوية في هذه الأمراض
خلق الله سبحانه ابن آدمَ وأعضاءَه ، وجعل لكل عُضو منها كمالاً إذا فقده أحسَّ بالألم ، وجعل لِمَلِكها
وهو القلب كمالاً ، إذا فقده ، حضرتْه أسقامُه وآلامُه من الهموم والغموم والأحزان .
فإذا فقدت العَيْنُ ما خُلِقَتْ له مِن قوة الإبصار ، وفقدت الأُذنُ ما خُلِقتْ له مِن قوة السَّمْع ، واللِّسَانُ
ما خُلِقَ له مِن قُوَّة الكلام ، فقدتْ كمالَها .
والقلبُ: خُلِقَ لمعرفةِ فاطره ومحبته وتوحيده والسرور به ، والابتهاج بحبه ، والرضى عنه ،
والتوكل عليه ، والحب فيه ، والبغض فيه ، والموالاة فيه ، والمعاداة فيه ، ودوام ذكره ، وأن يكون
أحبَّ إليه مِن كل ما سواه ، وأرْجَى عنده مِن كل ما سواه ، وأجَلَّ في قلبه مِن كل ما سواه ، ولا نعيمَ
له ولا سرورَ ولا لذَّةَ ، بل ولا حياة إلا بذلك ، وهذا له بمنزلة الغِذاء والصحة والحياة ، فإذا فَقَدَ
غذاءه وصحته وحياته ، فالهمومُ والغموم والأحزان مسارعةٌ مِن كل صَوْبٍ إليه ، ورهْنٌ مقيم عليه.
ومن أعظم أدوائه: الشِّركُ والذنوبُ والغفلةُ والاستهانةُ بِمَحابِّه ومَراضيه ، وتركُ التفويض إليه ،
وقِلَّةُ الاعتماد عليه ، والركونُ إلى ما سواهُ ، والسخطُ بمقدوره ، والشكُّ في وعده ووعيده .
وإذا تأملتَ أمراض القلب ، وجدتَ هذه الأُمور وأمثالها هي أسبابُها لا سببَ لها سِواها ، فدواؤه الذي
لا دواءَ له سواه ما تضمنتْهُ هذه العلاجات النبوية من الأُمور المضادة لهذه الأدواء ، فإنَّ المرضَ
يُزال بالضد ، والصِّحةُ تُحفظ بالمِثْل ، فصحتُه تُحفظ بهذه الأُمور النبوية ، وأمراضُه بأضدادها .
فالتوحيد . . يفتح للعبد بابَ الخير والسرور واللَّذة والفرح والابتهاج ، والتوبةُ استفراغٌ للأخلاط
والمواد الفاسدة التي هي سببُ أسقامه ، وحِميةٌ له من التخليط ، فهي تُغْلِق عنه بابَ الشرور ، فيُفتَح
له بابُ السعادة والخير بالتوحيد ، ويُغْلَق باب الشرور بالتوبة والاستغفار .
قال بعض المتقدمين من أئمة الطب: مَن أراد عافية الجسم ، فليقلِّلْ مِن الطعام والشراب ، ومَن أراد
عافية القلب ، فليترُكْ الآثام .
وقال ثابت بن قُرَّةَ: راحةُ الجسم في قِلَّة الطعام ، وراحةُ الرَّوح في قِلَّة الآثام ، وراحةُ اللِّسان في قِلَّة
الكلام . والذنوبُ للقلب ، بمنزلة السُّموم ، إن لم تُهلكْه أضعفتْه ، ولا بُدَّ ، وإذا ضعُفت قوته ، لم
يقدرْ على مقاومة الأمراض ، قال طبيبُ القلوب عبدُ الله ابن المُبارَك:
رَأَيْتُ الذنُوبَ تُمِيتُ الْقُلوبَ * وَقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ إدْمَانُها
وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ الْقُلوبِ * وَخَيرٌ لِنَفْسِكَ عِصْيَانُهَا
فالهوى أكبرُ أدوائها ، ومخالفتُه أعظمُ أدويتها ، والنفس في الأصل خُلِقَتْ جاهلة ظالمة ، فهي لجهلِها
تظن شِفاءَها في اتباع هواها ، وإنما فيه تلفُها وعطَبُها ، ولظلمِها لا تقبل مِن الطبيب الناصح ، بل
تضَعُ الداء موضِعَ الدواء فتعتمده ، وتضعُ الدواء موضع الداء فتجتنبه ، فيتولَّدُ مِن بين إيثارِها للداء
، واجتنابِها للدواء أنواعٌ من الأسقام والعِلل التي تُعيِي الأطباء ، ويتعذَّرُ معها الشفاء . والمصيبةُ
العظمى ، أنها تُرَكِّبُ ذلك على القَدَر ، فتُبرِّىء نفسَها ، وتلومُ ربَّها بلسان الحال دائماً ، وَيقوَى اللَّومُ
حتى يُصرِّحَ به اللِّسان . وإذا وصل العليلُ إلى هذه الحال ، فلا يُطمَع في بُرئه إلا أن تتداركه رحمة
من ربه ، فيُحييه حياةً جديدة ، ويرزقُه طريقةً حميدة ، فلهذا كان حديث ابن عباس في دُعاء الكرب
مشتملاً على توحيد الإلهية والربوبية ، ووصف الرب سبحانه بالعظمة والحلم ، وهاتان الصفتان
مستلزمتان لكمال القُدرة والرحمة ، والإحسان والتجاوز ، ووصفِه بكمال ربوبيته للعالَم العُلويِّ
والسُّفليِّ ، والعرش الذي هو سقفُ المخلوقات وأعظمها . والرُّبوبية التامة تستلزِمُ توحيدَه ، وأنه
الذي لا تنبغي العبادةُ والحبُّ والخوفُ والرجاء والإجلال والطاعة إلا له . وعظمتُه المطلقة تستلزمُ
إثباتَ كل كمال له ، وسلبَ كل نقص وتمثيل عنه . وحِلمُه يستلزم كمال رحمته وإحسانه إلى خلقه .
فعِلْمُ القلب ومعرفتُه بذلك توجب محبته وإجلاله وتوحيدَه ، فيحصل له من الابتهاج واللَّذة والسرور ما
يدفع عنه ألم الكرب والهم والغم ، وأنت تجدُ المريض إذا ورد عليه ما يسرُّهُ ويُفرحه ، ويُقوِّي نفسه
، كيف تقوى الطبيعة على دفع المرض الحسِّى ، فحصولُ هذا الشفاء للقلب أولى وأحرى .
ثم إذا قابلتَ بين ضيق الكرب وسعة هذه الأوصاف التي تضمَّنها دعاءُ الكرب ، وجدته في غاية
المناسبة لتفريج هذا الضيق ، وخروج القلب منه إلى سعَةِ البهجة والسرور ، وهذه الأُمورُ إنما
يُصدِّق بها مَن أشرقت فيه أنوارُها ،وباشر قلبُه حقائقَها .
وفي تأثير قوله: " يا حيُّ يا قَيُّومُ ، برحمتِك أستغيثُ " في دفع هذا الداء مناسبة بديعة ، فإنَّ صفة
الحياة متضمِّنةٌ لجميع صفات الكمال ، مستلزمة لها ، وصفة القَيُّومية متضمنة لجميع صفات الأفعال ،
ولهذا كان اسمُ الله الأعظمُ الذي إذا دُعيَ به أجاب ، وإذا سُئِلَ به أعطى: هو اسمُ الحَيّ القَيُّوم ،
والحياة التامة تُضاد جميعَ الأسقام والآلام ، ولهذا لَمَّا كَمُلَتْ حياة أهل الجَنَّة لم يلحقهم هَمٌ ولا غَمٌ ولا
حَزَنٌ ولا شيء من الآفات . ونقصانُ الحياة تضر بالأفعال ، وتنافي القيومية ، فكمالُ القيومية لكمال
الحياة ، فالحيُّ المطلق التام الحياة لا يفوتُه صِفة الكمال ألبتة ، والقَيُّوم لا يتعذَّرُ عليه فعلٌ ممكنٌ ألبتة
،فالتوسل بصفة الحياة والقَيُّومية له تأثيرٌ في إزالة ما يُضادُّ الحياة ، ويضُرُّ بالأفعال .
ونظير هذا توسلُ النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه بربوبيته لجبريلَ ومِيكائيلَ وإسرافيلَ أن يَهدِيَه
لما اختُلِفَ فيه من الحق بإذنه ، فإنَّ حياة القلب بالهداية ، وقد وكَّل الله سبحانه هؤلاء الأملاك الثلاثة
بالحياة ، فجبريلُ موَّكلٌ بالوحي الذي هو حياةُ القلوب ، وميكائيل بالقَطْر الذي هو حياةُ الأبدان
والحيوان ، وإسرافيل بالنَّفْخ في الصُّور الذي هو سببُ حياةِ العالَم وعَودِ الأرواح إلى أجسادها ،
فالتوسل إليه سبحانه بربوبية هذه الأرواح العظيمة الموكلة بالحياة ، له تأثير في حصول المطلوب .
والمقصود: أن لاسم الحيّ القَيُّوم تأثيراً خاصاً في إجابة الدعوات ، وكشف الكُربات .
وفي " السنن " و " صحيح أبي حاتم " مرفوعاً: " اسمُ اللهِ الأعْظَم في هاتَيْنِ الآيتين: { وَإلهُكُمْ
إلهٌ وَاحِدٌ ، لا إلهَ إلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } [ البقرة: 163 ] ، وفاتحةِ آلِ عمران: { آلم اللهُ لاَ
إلهَ إلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } [ آل عمران: 1-2 ] ، قال الترمذيُّ: حديث صحيح
وفي " السنن " و " صحيح ابن حِبَّان " أيضاً: من حديث أنس أنَّ رجلاً دعا ، فقال: اللَّهُمَّ إنِّي
أسألُكَ بأنَّ لَكَ الْحَمْدَ ، لا إلَهَ إلا أنتَ المنَّانُ ، بديعُ السَّمواتِ والأرضِ ، ياذا الجلال والإكرام ، يا حيُّ
يا قَيُّومُ ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لقد دَعَا اللهَ باسمِهِ الأعْظَم الذي إذا دُعِيَ به أجابَ ،
وإذا سُئِلَ به أعْطَى " . ولهذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد في الدعاء ، قال: " يَا حيُّ
يا قَيُّومُ " .
وفي قوله: " اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أرْجُو ، فلا تَكِلْني إلى نفسي طَرْفَةَ عَيْنٍ ، وأصْلِحْ لي شأني كُلَّهُ لا إلهَ إلاَّ
أنتَ " من تحقيق الرجاء لمن الخيرُ كُلُّهُ بيديه والاعتمادُ عليه وحده ، وتفويضُ الأمر إليه ،
والتضرع إليه ، أن يتولَّى إصلاح شأنه ، ولا يَكِلَه إلى نفسه ، والتوسُّل إليه بتوحيده مما له تأثيرٌ
قوي في دفع هذا الداء ، وكذلك قوله: " اللهُ ربِّي لا أُشْرِكُ بِه شَيْئاً " .
وأما حديث ابن مسعود: " اللَّهُمَّ إنِّي عَبْدُكَ ابْنُ عَبْدِكَ " ، ففيه من المعارف الإلهية ، وأسرارِ
العبودية ما لا يتَّسِعُ له كتاب ، فإنه يتضمَّن الاعترافَ بعبوديته وعبودية آبائه وأُمهاته ، وأنَّ ناصيته
بيده يُصرِّفها كيف يشاء ، فلا يملِك العبدُ دونه لنفسه نفعاً ولا ضراً ، ولا موتاً ولا حياةً ، ولا نُشوراً
، لأنَّ مَن ناصيتُه بيد غيره ، فليس إليه شيءٌ من أمره ، بل هو عانٍ في قبضته ، ذليل تحت سلطان
قهرِه .
وقوله: " ماضٍ فيَّ حُكْمُكَ عَدْلٌ فِيَّ قضاؤكَ " متضمنٌ لأصلين عظيمين عليهما مدارُ التوحيد .
أحدهما: إثباتُ القَدَر ، وأنَّ أحكام الرَّبِّ تعالى نافذةٌ في عبده ماضيةٌ فيه ، لا انفكاكَ له عنها ، ولا
حِيلةَ له في دفعها .
والثاني: أنه سبحانه عدلٌ في هذه الأحكام ، غير ظالم لعبده ، بل لا يخرُج فيها عن موجب العدل
والإحسان ، فإنَّ الظلم سببه حاجةُ الظالم ، أو جهلُه ، أو سفهُه ، فيستحيلُ صدورهُ ممن هو بكل
شيء عليمٌ ، ومَن هو غنيٌ عن كل شيء ، وكلُّ شيء فقيرٌ إليه ، ومَنْ هو أحكم الحاكمين ، فلا
تخرُج ذَرَّةٌ مِن مقدوراته عن حِكمته وحمده ، كما لم تخرج عن قُدرته ومشيئته ، فحِكمته نافذة حيثُ
نفذتْ مشيئته وقُدرته ، ولهذا قال نبيُّ الله هودٌ صَلَّى الله على نبينا وعليه وسَلَّم ، وقد خَوَّفه قومُه
بآلهتهم: { إنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ ، فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ
إنِّي تَوَكَّلْتُ علَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَابَّةٍ إلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ، إنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [
هود: 54-57 ] ، أي مع كونه سبحانه آخذاً بنَواصي خلقه وتصريفهم كما يشاء ، فهو على
صراطٍ مستقيمٍ لا يتصرَّفُ فيهم إلا بالعدل والحكمة ، والإحسان والرحمة . فقوله: " ماضٍ فيَّ حُكْمُكَ
" ، مطابقٌ لقوله: { مَا مِن دَابَّةٍ إلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا } ، وقولُه: " عَدْلٌ فِيَّ قضاؤكَ " ، مطابقٌ
لقوله: { إنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ هود: 57 ] ، ثم توسَّلَ إلى رّبِّه بأسمائه التي سمَّى
بها نفسه ما عَلِمَ العبادُ منها وما لم يعلموا . ومنها: ما استأثره في علم الغيب عنده ، فلم يُطلع عليه
مَلَكاً مُقرَّباً ، ولا نبيّاً مرسلاً ، وهذه الوسيلةُ أعظمُ الوسائل ، وأحبُّها إلى الله ، وأقربُها تحصيلاً
للمطلوب . ثم سأله أن يجعلَ القرآن لِقلبه كالربيع الذي يرتَع فيه الحيوانُ ، وكذلك القرآنُ ربيعُ
القلوب ، وأن يجعلَه شفاءَ هَمِّه وغَمِّه ، فيكونُ له بمنزلة الدواء الذي يستأصِلُ الداء ، ويُعيدُ البدن
إلى صحته واعتداله ، وأن يجعله لحُزنه كالجِلاء الذي يجلو الطُّبوعَ والأصديةَ وغيرها ، فأحْرَى بهذا
العلاج إذا صدق العليل في استعماله أن يُزيلَ عنه داءه ، ويُعقبه شفاءً تاماً ، وصحةً وعافيةً . . والله
الموفق .
وأما دعوةُ ذي النون . . فإنَّ فيها من كمال التوحيد والتنزيه للربِّ تعالى ، واعترافِ العبد بظلمه
وذنبه ما هو من أبلغ أدويةِ الكَربِ والهَمِّ والغَمِّ ، وأبلغِ الوسائل إلى الله سبحانه في قضاء الحوائج ،
فإنَّ التوحيدَ والتنزيه يتضمنان إثبات كل كمال للهِ ، وسلبَ كُلِّ نقصٍ وعيب وتمثيل عنه . والاعترافُ
بالظلم يتضمَّن إيمانَ العبد بالشرع والثواب والعقاب ، ويُوجب انكسارَه ورجوعَه إلى الله ، واستقالته
عثرتَه ، والاعترافَ بعبوديته ، وافتقاره إلى ربه ، فههنا أربعةُ أُمور قد وقع التوسلُ بها: التوحيد
،والتنزيه ، والعبودية ، والاعتراف .
وأما حديث أبي أمامة: " اللَّهُمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ والحَزَنِ " ، فقد تضمَّن الاستعاذة من ثمانية
أشياء ، كُلُّ اثنين منها قَرينان مزدوجان ، فالهمُّ والحَزَنُ أَخوان ، والعجزُ والكسلُ أخوان ، والجُبنُ
والبُخلُ أَخوان ، وضَلَعُ الدَّيْن وغلبةُ الرجال أخوان ، فإنَّ المكروه المؤلم إذا ورد على القلب ، فإما أن
يكون سببهُ أمراً ماضياً ، فيُوجب له الحزن ، وإن كان أمراً متوقعاً في المستقبل ، أوجب الهم ،
وتخلفُ العبد عن مصالحه وتفويتها عليه ، إما أن يكون مِن عدم القُدرة وهو العجز ، أو من عدم
الإرادة وهو الكسل ، وحبسُ خيره ونفعه عن نفسه وعن بني جنسه ، إما أن يكونَ منعَ نفعه ببدنه ،
فهو الجُبن ، أو بماله ، فهو البخل ، وقهرُ النَّاس له إما بحق ، فهو ضَلَعُ الدَّيْن ، أو بباطل فهو غَلبَةُ
الرِّجال ، فقد تضمَّن الحديثُ الاستعاذة من كل شَرٍّ .
وأما تأثيرُ الاستغفار في دفع الهَّمِّ والغَمِّ والضِّيق ، فلِمَا اشترَكَ في العلم به أهلُ الملل وعقلاءُ كُلِّ أُمة
أنَّ المعاصيَ والفسادَ تُوجب الهَمَّ والغَمَّ ، والخوفَ والحُزن ، وضيقَ الصدر ، وأمراض القلب ، حتى
إنَّ أهلها إذا قضَوْا منها أوطارَهم ، وسئمتها نفوسُهم ، ارتكبوها دفعاً لما يَجِدُونه في صدورهم من
الضيق والهَمِّ والغَمِّ ، كما قال شيخُ الفسوق: وَكَأْسٍ شَرِبْتُ عَلَى لَذَّةٍ * وَأُخْرَى تَدَاوَيْتُ مِنْهَا بِهَا
وإذا كان هذا تأثير الذنوب والآثام في القلوب ،فلا دواءَ لها إلا التوبةُ والاستغفار .
وأما الصَّلاةُ . . فشأنها في تفريح القلب وتقويته ، وشرحِه وابتهاجه ولذَّته أكبرُ شأن ، وفيها من
اتصالِ القلب والروح بالله ، وقربه والتنعم بذكره ، والابتهاجِ بمناجاته ، والوقوفِ بين يديه ،
واستعمالِ جميع البدن وقُواه وآلاته في عبوديته ، وإعطاء كل عضو حظَّه منها ، واشتغالهِ عن التعلُّق
بالخلق وملابستهم ومحاوراتهم ، وانجذابِ قُوى قلبه وجوارحه إلى ربه وفاطره ، وراحتِه من عدوِّه
حالةَ الصلاة ما صارت به من أكبر الأدوية والمفرِّحات والأغذية التي لا تُلائم إلا القلوبَ الصحيحة .
وأمَّا القلوبُ العليلة ، فهي كالأبدان لا تُناسبها إلا الأغذية الفاضلة .
فالصلاةُ من أكبر العَوْن على تحصيل مصالح الدنيا والآخرة ، ودفع مفاسد الدنيا والآخرة ، وهي
منهاةٌ عن الإثم ، ودافعةٌ لأدواء القلوب ، ومَطْرَدَةٌ للداءِ عن الجسد ، ومُنوِّرةٌ للقلب ، ومُبيِّضَةٌ للوجه
، ومُنشِّطةٌ للجوارح والنفس ، وجالِبةٌ للرزق ، ودافعةٌ للظلم ، وناصِرةٌ للمظلوم ، وقامِعةٌ لأخلاط
الشهوات ، وحافِظةٌ للنعمة ، ودافِعةٌ للنِّقمة ، ومُنزِلةٌ للرحمة ، وكاشِفة للغُمَّة ، ونافِعةٌ من كثير من
أوجاع البطن .
وقد روى ابن ماجه في " سننه " من حديث مجاهد ، عن أبي هريرة قال: رآني رسولُ الله صلى الله
عليه وسلم وأنا نائم أشكو مِن وجع بطني ، فقال لي: " يا أبا هُرَيْرَة ، أشِكَمَتْ دَرْدْ " ؟ قال: قلتُ:
نعم يا رسولَ الله ، قال: " قُمْ فَصَلِّ ، فإنَّ في الصَّلاةِ شِفَاءً " .
وقد رُوي هذا الحديثُ موقوفاً على أبي هُرَيرةَ ، وأنه هو الذي قال ذلك لمجاهد ، وهو أشبهُ . ومعنى
هذه اللفظةِ بالفارسي: أيوجعُكَ بطنُكَ ؟ فإن لم ينشرح صدرُ زنديق الأطباء بهذا العلاج ، فيُخاطَبُ
بصناعة الطب ، ويقالُ له: الصلاةُ رياضة النفس والبدن جميعاً ، إذ كانت تشتمِلُ على حركات
وأوضاع مختلفة مِن الانتصاب ، والركوع ، والسجود ، والتورُّك ، والانتقالات وغيرها من الأوضاع
التي يتحرَّك معها أكثرُ المفاصل ، وينغمِزُ معها أكثرُ الأعضاء الباطنة ، كالمَعِدَة ، والأمعاء ، وسائر
آلات النَّفَس ، والغذاء ، فما يُنكر أن يكونَ في هذه الحركات تقويةٌ وتحليلٌ للمواد ، ولا سِيَّما بواسطة
قوةِ النفس وانشراحِها في الصلاة ، فتقوى الطبيعة ، فيندفع الألم .
ولكن داء الزندقةِ والإعراض عما جاءت به الرُّسلُ ، والتَّعوُّضِ عنه بالإلحاد داءٌ ليس له دواء إلا نارٌ
تَلَظَّى لاَ يَصْلاَهَا إلاَّ الأشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى } .
وأمَّا تأثيرُ الجهادِ في دفع الهم والغم ، فأمرٌ معلوم بالوجدان ، فإنَّ النفس متى تركتْ صائِلَ الباطل
وصَوْلته واستيلاءَه ، اشتد همُّها وغمُّها ، وكربُها وخوفها ، فإذا جاهدته لله أبدل الله ذلك الهمَّ
والحُزْنَ فرحاً ونشاطاً وقوةً ، كما قال تعالى: { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ
وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } [ التوبة: 14-15 ] ، فلا شيءَ أذهبُ لجوَى
القلب وغَمِّه وهَمِّه وحُزنه من الجهاد . . والله المستعان .
وأمَّا تأثيرُ " لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا بالله " في دفع هذا الداءِ ، فلِما فيها من كمالِ التفويضِ ، والتبرِّي
من الحَوْل والقُوَّة إلا به ، وتسليمِ الأمر كله له ، وعدمِ منازعته في شيء منه ، وعموم ذلك لكلِّ
تحوُّلٍ من حَال إلى حال في العالَم العُلويِّ والسُّفليِّ ، والقوةِ على ذلك التحول ، وأنَّ ذلك كُلَّه باللهِ
وحدَه ، فلا يقوم لهذه الكلمة شيء .
وفي بعض الآثار: إنه ما ينزِلُ مَلَكٌ من السماء ، ولا يَصعَدُ إليها إلا ب " لاَ حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلاَّ بالله "
، ولها تأثيرٌ عجيب في طرد الشيطان . . والله المستعان .
اضف تعليقك