TLB News (طلبة نيوز للإعلام الحر)
في يومها العالمي : اللغة العربية هوية أمة
16/12/2018 - 11:45am

طلبة نيوز-
بقلم د. ابتسام أبو محفوظ / السعودية / جامعة القصيم
في الوقت الذي يتجه فيه الكثير من العرب نحو تدريس أطفالهم اللغات الأجنبية وإتقانها اعتقادًا منهم بأنها الطريق الأمثل إلى دراسة العلوم الحديثة التي باتت تدرّس بها فإن هناك إحساسًا متناميًا لدى آخرين بأن اللغة العربية ما زالت تحافظ على وجودها وقوامها بدليل تلك الكتب والمؤلفات التي تطبع وتنشر في دور النشر التي تملأ الأفق ، ومهما يكن فإن الرغبة عند كثيرين من أبناء هذه اللغة تؤكد على أن تكون اللغة العربية هي عنوان بارز يمثل هوية أبنائهم ،مهما اختلفت الظروف المحيطة ، كما حرص الكثير من الغيورين على هذه اللغة على قواعدها النحوية والصرفية والإملائية ممن دعوا إلى التعريب ،وتصدوا لكل دعوات التغريب وأؤلئك الذين دعوا إلى تحويل الحرف العربي إلى اللاتيني ؛ فبقيت هذه اللغة صامدة ومن أقوى اللغات في العالم ، فهي ليست وسيلة تواصل فحسب بين أبنائها بل هي الوعاء الذي يحمل الهوية الثقافية للشخصية العربية ،ولكل ما هو عربي حيث كانت إحدى الركائز الأساسية في بناء الشخصية الثقافية العربية وتشكيل الهوية العربية ، إضافة إلى الأسرة والمدرسة والمؤسسة الإعلامية والخبرة الشخصية التي يتلقاها الفرد عبر سني حياته المختلفة ، وقد كانت لسان العرب ولغة دواوينهم وتعليمهم ودينهم وشعرهم وأدبهم ولغة وجدانهم وفكرهم فكيف لا تصير هوية لهم ؟؟؟ وكيف لا تمثلهم ؟
اللغة "هبة تمثل أولى درجات تميز الكائن البشري على ما عداه من الكائنات ، ولعل هذا يبدو في عدها الميزة الأولى التي أعقبت خلق الإنسان نفسه في التعبير القرآني( ) ، قال تعالى : " الرحمن * علم القرآن * خلق الإنسان * علمه البيان " ( )، ولا يقتصر دورها على هذا ، بل يتعداه إلى كون اللغة من " أهم الأساليب التي تصهر عناصر الأمة في بوتقة واحدة ومن أهم الأساليب التي تقيم التفاهم الذهني بين مختلف الطبقات " ( )، هذه اللغة " تختزن المشاعر الأولى ، والأفكار الأولى ، والتشكيلات الأولى للكون من حول الإنسان ، وفيها - ومن خلالها - يتشكل معنى ولفظ البهجة والحزن والانتصار والانكسار والحب والكراهية والألم والسرور ، وفي منظورها تتحدد مفاهيم المباح والمحظور والملاطفة والمخاشنة والرضا والإنكار وانفتاح أبواب الفهم أو انغلاق مفاتيحه " ( ) ، وهي " صورة السلوك الإنساني التي تنطوي على الاتصال الرمزي من خلال نسق النماذج الصوتیة المتفق علیه ثقافیًا، والذي یحمل معاني مقننة، وتعتبر اللغة جزءا من التراث الثقافي المعبرة عنه في نفس الوقت، هذا وتتحول الأصوات التلقائیة في اللغة إلى رمز ثقافیة قادرة على توصیل الأفكار والرغبات والمعاني والخبرات ، والتقالید من جیل إلى آخر، واللغة نتاج اجتماعي تمثل التجارب المتراكمة والراهنة والعواطف والمعاني التي یمكن نقلها داخل ثقافة معینة، بالإضافة إلى أهمیتها في الإدراك الاجتماعي والتفكیر ومعرفة الذات، ومعرفة الآخرین ، وهي بذلك ضروریة للوجود الاجتماعي" ( ).

والعلاقة التي تربط بين اللغة العربية وأبنائها علاقة تصل إلى درجة القداسة ، سواء في علاقتها بماضيها " لاكتسابها صفة دينية تتمثل في أن العربية هي لغة القرآن الكريم والنصوص والعلوم المتصلة به ، أم في علاقتها بحاضرها الذي يجعل العربية هي وسيلة الاتصال الأولى على المستويات المختلفة بين الأقطار العربية المختلفة " ( )، وعليه فإن هذه اللغة تشكل جزءا من الهوية العربية ؛ لأن الهوية ليست إرثًا جامدًا لا يتغير أبدا " إنما هي في التحليل النهائي عملية إبداع مستمر للفرد وللمجتمع بموارده التراثية تغذيها التنوعات القائمة بصورة واعية ومقصودة ، وتقبل الإسهامات الآتية من الخارج باستيعابها وتحويلها عند الاقتضاء ، وهي تنأى عن أن تكون صورة من صور الانطواء على مكتسب ، ولا تقبل أن تغلق على نفسها " ( )، لتصبح في كليتها مصطلحًا يشير إلى مجموع " المواصفات التي تجعل من شخص ما شخصًا معروفًا أو متعينًا " ( )أو تجعل من أمة أمة معروفة أو متعينة .
والسؤال الذي يطرح نفسه هو : كيف صارت اللغة العربية هوية للعرب ؟
لقد كانت هذه اللغة لسانًا للعرب ، ولغة لشعرهم وأدبهم منذ عصورهم الأولى في معلقاتهم وشعر صعاليكهم ونصوص مفضلياتهم وأصمعياتهم وجمهرة أشعارهم ومختاراتهم المختلفة المطبوعة بفصاحتهم وبلاغتهم ،أفلا تكون هوية لهم ؟؟
اختارها الله تعالى لغة لكتابه المقدس ، فقال عز وجل : " إنا جعلناه قرآنا عربيًا لعلكم تعقلون " ( ) ، وقال : " كتاب فصلت آياته قرآنًا عربيًا لقوم يعلمون " ( )، " قرآنًا عربيًا غير ذي عوج " ( ).
وكما كانت لسانًا للعرب كانت كذلك لغيرهم ممن دخلوا في الإسلام من غير المسلمين ،فكتبوا فيها مؤلفاتهم كابن جني والأخفش وسيبويه والخليل بن أحمد الفراهيدي وأبي علي الفارسي وغيرهم، وكان منهم شيوخ الحديث البخاري ومسلم والترمذي والنسائي.
وكانت لغة العلم والحكم والدواوين ، فقد جعل عبد الملك بن مروان اللغة العربية لغة رسمية للدولة ، وأمر الوليد بن عبد الملك بتعريب دواوين الدولة الأموية كلها ، حتى غدت لغة العلوم كلها هي اللغة العربية ، فهي لغة العلم ولغة التعليم عن طريق تدريسها بشكل مباشر أو استخدامها لتدريس غيرها م المواد الدراسية ، ولا ننسى حركة الترجمة الواسعة التي كرسها العباسيون ،فقد كانت لغة الترجمة لما ترجم من اليونانية والفارسية والهندية ، ويقف بيت الحكمة في زمن المأمون شاهدًا على ذلك ، وقد انتقلت الترجمة في العصر العباسي الثاني من " الترجمة الحرفية التي تمتلئ بالعثرات والصعوبات اللفظية إلى ترجمة الفقر والعبارات بالمعنى ترجمة دقيقة " ( )،وترجمت كثير من المواد العلمية كالطب ونحوه إلى العربية " وكان كثير من الأطباء يكلفون المترجمين نقل كتب طبية أو كتب تتصل بالطب " ( )، وازدهرت حركة التأليف بالعربية ،حتى كتب المستشرقون أنفسهم عن فضل هذه الحضارة على الغرب ، فكتبت الألمانية زيغريد هونكة كتابها الشهير : " شمس العرب تسطع على الغرب " لترسم صورة انتقال هذه الحضارة بلغتها العربية إلى أوروبا التي كانت تحت وطأة عصور الظلام .
من هنا شكلت هذه اللغة جزءا كبيرًا من الهوية الثقافية للأمة العربية ،وساهمت مع عوامل أخرى في تشكيلها ،فسارت جنبًا إلى جنب مع الأسرة النواة الأولى التي يتلقى فيها الفرد مفردات شخصيته ولغته ومعتقده وتفكيره ، والتقت مع المدرسة في لغتها ونهجها وأهدافها ، وتعمقت في المؤسسات الإعلامية المختلفة لتشكيل وعي الأفراد ، وكانت جزءا لا يتجزأ من الخبرات الشخصية التي يتلقاها الإنسان عبر سني حياته المختلفة .
ورب قائل يقول إن نظرة واحدة للواقع المعاش يعطي صورة مأزومة لواقع أهل هذه اللغة دفعها إلى أن تعيش الأمة العربية في حالة ركود وانكفاء أفاقت منها على وقع طبول الاستعمار الذي استهدف الشخصية العربية ولغتها العربية ، وفرض لغة المحتل تمثل في الانسلاخ عن الهوية العربية من خلال :
- التعلق باللغات الأجنبية واعتقادهم بقصور اللغة العربية أمام اللغات الأخرى متناسين قدرة هذه اللغة وديناميكيتها في الاستمرار عبر النحت والاشتقاق والتركيب المزجي وغيرها ، فراحوا يعلمون أبناءهم اللغات الأجنبية منذ نعومة أظفارهم حتى باتوا عاجزين عن التعبير باللغة العربية ، وأصبحت أسماء محلاتهم ومتاجرهم وعلاماتهم التجارية وإعلاناتهم التسويقية بلغات أخرى غير العربية ، وحمل كثير من المستشرقين عداء واضحًا للغة العربية ، وكان كرومر يقول : " إن علمًا يدرس بالعربية يجب ألا يعلم أبدًا " .
- تشويه اللغة باللحن والتحريف والعاميات المختلفة ، حتى غدا لدينا حالة من الانفصام اللغوي بين الفصحى والعامية واللهجات الحديثة ، ربما ساهمت المؤسسات التعليمية ممثلة بالمدرسة والجامعة في تكريسه ، مع أن هناك علومًا لغوية قامت للتصدي لمثل هذه الظواهر مثل علم اللغة التطبيقي،وعلم نفس اللغة ، وعلم اللغة الاجتماعي ونظريات التعلم والتعليم وغيرها .
- ظهور عاميات الأقليات المختلفة التي تعيش في البلاد العربية وطغيانها على اللغة العربية من خلال الفضائيات العربية وما يعرض فيها .
- اتهام اللغة العربية بعدم قدرتها على مواكبة التقدم الحضاري، وعجزها عن جلب المصطلح العلمي المناسب لما يجد من تقنيات ومخترعات مختلفة ،متناسين كثرة مفرداتها فلو " أمعنا النظر في قواميس كل اللغات السامية وأحصينا مفرداتها لوجدنا العربية من أغناها على الإطلاق بل تفوق كل مفردات اللغات السامية الأخرى مجتمعة ، وتكاد تتفوق على أخصب لغات العالم بما تحويه من مفردات وألفاظ تشمل كل مستلزمات الحياة وتعبر عن كل ما يجول في خاطر الإنسان ...صحيح أن العربية في الجاهلية وقبل خروج العرب إلى الخارج كانت محدودة الأفق ، والمواضيع التي تشغل بال متكلميها معدودة ، ولكن ما إن خرج العرب إلى العالم حتى سارعوا إلى استيعاب كل ما هو غريب عنهم ، وما هي إلا فترة وجيزة من الزمن حتى بدؤوا أنفسهم في تأليف المجلدات الضخمة والتعبير عن أدق المسائل العلمية والروحية ، فشاعت كتبهم وانتشرت آراءهم حتى صار علماء العالم الأوروبي يتتلمذون على يد العلماء العرب في جامعات الأندلس وصقلية ويدرسون في جامعاتهم كتب ابن رشد والرازي وابن سينا والخوارزمي في الطب والفلسفة والرياضيات " ( ).
- اتهام اللغة العربية بصعوبتها إملائيًا ونحويًا ،، حيث ووجهت اللغة العربية بانتقادات ومطاعن شتى ، فراح من يدعو إلى العاميات المختلفة كما فعل سلامة موسى ، ودعا آخرون إلى اتخاذ الحروف اللاتينية لكتابة عربية تمثلت في دعوة عبد العزيز فهمي في كتابه " الحروف اللاتينية لكتابة عربية " ، متابعًا في ذلك المستشرق ولهلم سبيتا في كتابه " قواعد العربية العامية في مصر " فقد كان أول من دعا إلى استبدال الأحرف اللاتينية بالأحرف العربية ، إذ اتهم اللغة العربية بالصعوبة ،ولهذا السبب هجرها أهلها ، وراحوا يستعملون العامية في حياتهم اليومية ، ولو كانت سهلة مرنة كما هي حال اللغات الأجنبية لاعتمدها العرب في تفكيرهم وكتابتهم ، لكنها – كما يرى – لغة صعبة مقصورة على بعض الواجبات الدينية ، ومن المفيد التخلي عنها لأنها تعوق التقدم والرقي ، ( )، ثم تابعه في ذلك كارل فورس في كتابه " اللهجة العربية الحديثة في مصر " وسلدن ولمور في كتابه " العربية المحكية في مصر " ، وفيلوت وباول في كتابهما " المقتضب في عربية مصر " ، وهم يدّعون الخير للعرب فيدعونهم إلى هجر الفصيحة واعتماد العامية ؛لأنها في رأيهم سبب عدم وجود قوة الاختراع لدى المصريين ، وآخرون يرون في كل ذلك تطويرًا للغة مر عليها ألف وخمس مئة سنة وهي على حالها دون تطور يذكر في الوقت الذي تتطور فيه اللغات الأخرى كاللغة اللاتينية التي أولعوا بها متناسين أن ما في هذه اللغة ما لا تؤديه الحروف اللاتينية من نغمات تتفرد بها حروف كالحاء والصاد والضاد مثلًا ، ومتجاهلين انقطاع الصلة بين الخلف والسلف من وراء هذه الدعوة، وكيف تحرم الخلف من الانتفاع بآثار السلف في العلوم والفنون المختلفة ، ناهيك عن الابتعاد عن الرسم القرآني فمن سيقرؤه في المستقبل لأن العربية ستكون بمنزلة الكتابات التي اندرست كالقبطية القديمة ؟

وقد نتج عن انصراف أهل اللغة عن لغتهم إضعاف للإنسان العربي ومساس بهويته ، الأمر الذي أفقد الإنسان العربي شخصيته ودفعه نحو التقليد الأعمى ، وفي ذلك يقول ابن حزم : " إنما يقيد لغة الأمة علومها ، وأخبارها قوة دولتها ونشاط أهلها ، وأن اللغة يسقط أكثرها بسقوط أهلها ودخول غيرهم عليهم " ( ) ، وتراجعت صورة اللغة عند أصحابها فأصبحت لديهم شيئًا من الماضي أو التراث القديم ، وأصبحت اللغة مثار جدل يرتبط بتخلف العرب ، وكأنها المسؤولة الأولى عن هذا الواقع المأزوم والمتخلف .
كل تلك الدعوات حاولت أن تطمس الهوية العربية والقومية العربية ، ألا تتمثل مشخصات القومية في وحدة الوطن ووحدة اللغة ؟ فكيف لأمة أن تُشخص هويتها دون لغة ؟؟
ثم ألا يمكن تحسين حال العربية بطرق أخرى دون العبث بمقوماتها الأساسية ؟ ألا يمكن إيجاد حل لبعض مشاكل الكتابة المستجدة نتيجة الابتعاد عن أصولها : كمشكلة الحركات في الكتابة مثلا ؟ ثم أن المعنى الأساس للكلمة موجود في الصوامت المكونة لها ولا يزيد دور الحركات على تخصيص المعنى ، كما يمكن كتابة الملبس منها فقط والتخلي عما يمكن فهمه من صورة الكلمة بشكلها العام .
وقد اعتبر نهاد الموسى( ) أن الدعوة إلى اتخاذ الحروف اللاتينية لكتابة عربية تدبير من تدابير الهيمنة يبيته الغرب اللاتيني حين تسنح له ظروف الغلبة السياسية والتفوق الحضاري كما حدث في الجزائر عندما فرضت فرنسا استعمال الحروف اللاتينية في الكتب المدرسية في أواخر القرن التاسع عشر .
ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل دعا كثيرون من دعاة التغريب والليبيراليين العرب إلى استخدام اللغات الأجنبية في الحكم والإدارة والتعليم من أجل تحقيق التقدم والازدهار ، لا سيما وأن اللغة الإنجليزية أصبحت لغة التكنولوجيا نتيجة لسيطرة الاقتصاد الرأسمالي على العالم ، ودعوا إلى اتخاذها لغة للتدريس بدلًا من العربية ، لأن تمكنهم من تلك اللغات سيسهم في اطلاعهم على المستجدات العلمية في عالم التكنولوجيا ، كما سيمكنهم من المشاركة في المؤتمرات والمشاركات العلمية العالمية ،وبرّر آخرون ذلك بأن تعلم اللغة الأخرى سيساعد هم على امتلاك أدوات الحوار مع الآخر وإثبات هويتهم الحضارية والثقافية ،وساعد ظهور نظام العولمة الجديد على ذلك .
ونتج عن ذلك كله المزيد من التهميش للغة العربية لصالح اللغات الأخرى التي باتت على المنتوجات المختلفة التي قصّر العرب عن اختراعها ، ولا يعني هذا عجز اللغة نفسها عن التطور ، لكن اللغة مرتبطة بالفكر الذي يحمله أصحابها ، إنها وعاء يعكس صورة ما فيه، وهي بكل أشكالها تجسد نصًا ثقافيًا تلتقي عليه الأمة ، فهي أداة فكرهم وناقلة مفاهيمهم ، ووسيلة التواصل والترابط والتقارب بينهم ، تصهرهم في بوتقة واحدة ، وهي وطن روحي للأمة جمعاء ، تجمع تاريخهم ، وأحلامهم ومستقبلهم ، وتحتضن تراثهم وتوثقه ،وكيف إذا تماهت مع عقيدتهم الروحية وحملتها ؟ وكانت لغة الحضارة والثقافة والدين والفكر ،وأي تفريط فيها هو تفريط بهوية الأمة وتفريط بكيانها ووجودها ،وكما كانت إحد عوامل الوحدة العربية فإنها الأمل في إعادة هذه الوحدة إلى هذه الأمة من جديد ، فهي جزء لا يتجزّأ من شخصية هذه الأمة ، وكما يقول الرصافي :وتجمعنا جوامع كبريات أولهن سيــــــــــــــــــــــــدة اللغات
وكمايقول شوقي :
ويجمعنا إذا اختلفت بلاد بيان غير مختلف ونطق

إن الأزمة ليست أزمة لغوية بل هي أزمة واقع متخلف أدّى إلى فساد اللسان العربي وأحدث خللًا لغويًا واضحًا أفسد الملكة العربية شكلًا ومضمونًا ، وأضعف الإقبال على اللغة العربية والتعليم اللغوي ناهيك عن التخصص فيها ، حتى بتّ ترى إغلاقًا لأقسام اللغة العربية في الكثير من الجامعات.
ويمكن التصدي لذلك كله بدعوة صريحة إلى إعادة الثقة بالنفس ، والثقة بهذه اللغة وقدرتها على حمل الهوية العربية، والإيمان بقدرتها على بناء شخصية الإنسان روحيًا وفكريًا وثقافيًا وقدرتها على مواكبة التقدم الحضاري من خلال المدرسة والجامعة والمؤسسات التعليمية المختلفة،وعلى معلم المدرسة مسؤولية كبرى فعليه ألّا يغتفر أخطاء طلابه في اللفظ أو التعبير ، لا سيما وأن كثيرًا من المباحث لا تدرس إلا من خلالها ،وقد أثبتت اللغة العربية أنها لغة مطواعة يستطيع الكاتب والشاعر والصحفي أن يستخدمها بسهولة ويسر لتعبر عن مكنونات أنفسهم وأفكارهم ،وهي مطواعة للعالم والباحث في العلوم المختلفة يعبر بها عن مصطلحاته المختلفة ومفاهيمه العلمية المتنوعة ، ألم تكن لغة العلم والتدريس لثمانية قرون من الزمان مضت ؟ ألا يمكن إعادتها إلى عالمنا من جديد ؟ بجعلها لغة التخاطب ، يقول الفاسي الفهري:" إن تعميم العربية باعتبارها لغة التواصل الملائمة لدى القوى العاملة التي ستمكن من الزيادة في سرعة التنفيذ والإنتاج ، بل إن تعزيز العربية في الإدارة والاقتصاد والاتصال والتكنولوجيا شرط ضروري للنمو الاقتصادي والتنمية الاجتماعية ، وإن استعمال العربية بصورة ملائمة في تقنيات الإعلام الجديدة ستمكن من اتساع مجالها ودمقرطتها " ( ).
ولقد كانت اللغة العبرية من اللغات الميتة التي قام مجموعة من الشباب اليهودي يتصدرهم إليعازر بن يهودا بلم أشتاتها ،وجعلها لغة التخاطب لأفراد أسرته، ووضع معجمًا يجمع مفرداتها أكمله تلاميذه فيما بعد، ثم انتقلت بعد ذلك لتصبح لغة أمة بأكملها، وأصبحت لغة التدريس في مدارسهم وجامعاتهم ، وتعقد بها المؤتمرات المختلفة .
ولا شكّ أن ذلك لا يكون إلا بـ :
- قرار سياسي ملزم من خلال سياسة التخطيط اللغوي السليم من قبل الجهات القادرة والفاعلة في الدولة ،وعلى عاتقه تقع مسؤولية إيجاد حلول للمشكلات اللغوية المختلفة ؛ لأنه " المجال الذي یحكم التدخل في توجیه اللغة وینظم سیرها"( ) ، ویمثل التخطیط اللغوي " الجهود المتكاملة التي یقوم بها الأفراد والجماعات والمؤسسات للتأثیر في الاستعمال اللغوي والتصور اللغوي" ( ) للمساهمة في نشر الوعي اللغوي عند أبنائها ، وفرض اللغة الأم لتكون لغة العلم والتدريس ، وتنقيتها مما يشوبها من اللحن والتحريف ونحوهما .
- الدعوة إلى تعريب العلوم والتكنولوجيا تعريبًا عميقًا قادرًا على نقل المعارف والمستجدات العلمية بما يجعل الباحث العربي يتصل بتلك المستجدات ليكون قادرًا على مواكبتها والاتصال بها ، وليس تعريبًا سطحيًا يحمل صورة عامة عنها ، يتولاه فريق من العلماء واللغويين معًا ، واللغة التي وسعت كتاب الله – عزوجل – لا يمكن لها أن تضيق عن وصف آلة وتنسيق أسماء لمخترعات .
- عدم تغييب اللغة العربية عن البحث العلمي بمجالاته المختلفة ، و زيادة الاهتمام بالعلماء والباحثين ، وتوفير آليات البحث العلمي ودعمه باللغة العربية ، وعدم اقتصاره على العلوم اللغوية والشرعية إذ لا بدّ من تشجيعه في المجال العلمي والتقني في كليات الطب والهندسة والزراعة وغيرها ، وتوفير البيئة الجاذبة للعلماء العرب خوفًا من هجرة العقول العربية المنتجة .

__________________

- إنقاذ اللغة .. إنقاذ الهوية ، أحمد درويش ، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع ، 2006، ص14
- سورة الرحمن (1-4)
- في فلسفة اللغة ، كمال يوسف الحاج ، دار النهار ، 1978م ، ص140
- إنقاذ اللغة ..إنقاذ الهوية ص 17.
- قاموس علم اجتماع، محمد عاطف غيث ، ط2 ،دار المعرفة الجامعیة الازریطة، الإسكندریة، مصر، 2006، ص243.
- إنقاذ اللغة من أيدي النحاة ، أحمد درويش ،ط1 ، دار الفكر بدمشق ،1999م ، ص6
- الهوية الثقافية العربية في ظل ثورة الاتصال والإعلام الجديد ، فؤادة البكري ، ضمن أبحاث المؤتمر الدولي : الإعلام الجديد تكنولوجيا جديدة لعالم جديد ، المنامة ، جامعة البحرين ، 2009 م ، ص 379
- في الهوية القومية العربية ، عفيف البوني ، مجلة المستقبل العربي ، العدد 57 ، نوفمبر 1983م ، ص5.
- سورة الزخرف (3)
-سورة فصلت (3)
- سورة الزمر( 28)
- العصر العباسي الثاني ، شوقي ضيف ، ط13، دار المعارف ، القاهرة ، 1973م، ص 131.
- المرجع السابق ص132
- مستقبل اللغة العربية بين محاربة الأعداء وإرادة السماء ، أحمد بن نعمان ، ط1 ، دار الأمة ، الجزائر ، 2008م، ص 149.
- انظر : تاريخ الدعوة إلى العامية وآثارها في مصر ، نفوسة زكريا سعيد ، ط1 ، دار الثقافة بالإسكندرية ، 1964م ، ص18
- الإحكام في أصول الأحكام ، ابن حزم الأندلسي ، دار الآفاق الجديدة ، 1403-1983 م ، ط2 ، ج1/32
- وقد فصل النظر فيها في بحثه " قضية الكتابة العربية السجال والحل " المنشور ضمن كتابه " الثنائيات في قضايا اللغة العربية من عصر النهضة إلى عصر العولمة " ط1 ، 2003م
- اللغة العربية وأسئلة التطور الذاتي والمستقل ، عبد القادر الفاسي الفهري ، ط1 ، مركز دراسات الوحدة العربية ، 2005م ، ص15
- نظریة اللغة الثالثة (دراسة في قضیة اللغة العربیة الوسطى)، أحمد محمد المعتوق ، المركز الثقافي العربي، الدار البیضاء، المغرب، 2005 ،ص.31.
- لغة الطفل العربي، علي القاسي ، دراسات في السیاسات اللغویة وعلم اللغة النفسي، مكتبة لبنان، لبنان، 2009،ص13

اضف تعليقك

Plain text

  • No HTML tags allowed.
  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Lines and paragraphs break automatically.
Image CAPTCHA
أدخل الحروف التي تظهر بالصورة (بدون فراغات)