TLB News (طلبة نيوز للإعلام الحر)
لعبة التفاهة
11/03/2020 - 11:30am

بقلم: المهندس عامر عليوي، جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية
مع بدايات هذا العام طلب مني أحد الزملاء أن اقرأ كتاباً بعنوان "نظام التفاهة" والذي صدرت طبعته المترجمة الأولى عن دار سؤال في بيروت عام 2020، وهو من تأليف الفيلسوف الكندي آلان دونو، وترجمة الدكتورة مشاعل الهاجري أستاذة القانون بجامعة الكويت.
حقيقة انني لم أستطع مقاومة عدم قراءة الكتاب كاملاً، كونه يحاكي الواقع الذي نعيشه، ومن هنا اوجه دعوة للجميع لقراءته بهدوء وروية بسبب طرحه الجريء وأسلوبه المختلف، حيث يدور حول فكرة محورية ملخصها أننا وكما قالت المترجمة نعيش في مرحلة تاريخية يسود فيها نظام أدى تدريجيًا إلى سيطرة التافهين على جميع مفاصل الدولة الحديثة، وصرنا نلحظ صعودًا غريباً لقواعد تتصف بالرداءة والانحطاط، فتدهورت متطلبات الجودة العالية، وغاب الأداء الرفيع، وهُمشت منظومات القيم، وبرزت الأذواق الوضيعة، وأُبعد أهل الكفاءة والكفاية.
وأشارت الهاجري في ترجمتها للكتاب ان للتفاهة صحافة صنعت جماهير غفيرة عاجزة عن رؤية الصورة الكلية، تعاني من وعي غائب، واستهلاك مفرط للملذات، مع تخمة في الجهل جلبت معها يقينًا بصواب ما ينشر في الصحف حتى غدا المنشور عندهم عنواناً للحقيقة، وفي الواقع فإن نظام التفاهة لا يثبت فعاليته القصوى إلّا مع الناس الذين يصدقون الرسالة الإعلامية دونما تمحيص أو فحص أو وضع ذرة من الشك عليها، مما نجم عنه ظاهرة "الأميون الجدد" وللهاجري مقالة عنهم مترجمة ومنشورة في مدونتها.
وتختم الكاتبة مقدمتها المذهلة بالقول: ان الهدف النهائي هو إسباغ التفاهة على كل شيء، وأنكى ما في ذلك سهولة تنفيذ هذه المهمة ويسر تحقيقها بسلاسة من خلال البهرجة والابتذال التي تستهدف إذهال العين، بينما القاعدة المنسوبة للفرنسي تاليران تقول: كل شيء يُبالغ فيه فهو غير ذي أهمية!، وهي قاعدة تنسف هذا الظهور المزخرف، ومنها الإفراط في التفاصيل لتحقيق غاية قال عنها نيتشه: "يكدرون مياههم، كي تبدو عميقة"، فلا يظننن أحد أن سدنة نظام التفاهة لا يعملون، فهم يتعبون لإصابة هدفهم، ويعملون دون كلل لتحويل كلّ شيء إلى مصدرٍ للمتعة وحسب، ويجتهدون لإسباغ الأهمية على الصغائر وتضخيم التفاصيل التافهة.
يقول صاحب كتاب "نظام التفاهة": لا تكن فخوراً ولا روحانياً، فهذا يظهرك متكبراً. لا تقدم أي فكرة جيدة، فستكون عرضة للنقد. لا تحمل نظرة ثاقبة، وسع مقلتيك، أرخ شفتيك، فكر بميوعة – أي مرونة وقابليه للتشكل- وكن كذلك. عليك أن تكون قابلاً للتعليب، لقد تغير الزمن، وتغيرت الأحوال، لقد سيطرت أفكار الرداءة والانحطاط، لتصير معياراً في الحكم على الآخرين، وللحكم أيضا بالمطلق، فالتافهون قد أمسكوا بالسلطة.
وهذا يذكرني بما قاله الماغوط: " لا تكن موهوباً، فهذا زمن التافهين. لا تكن قمةً، فهذا زمن الحضيض".
التافهون من حولنا كثر، يُطِلونَ علينا من كل مكان، يسيطرون على كل شيء ويحددون مصير العقلاء، أخبارهم وقيمهم وأفكارهم ومعتقداتهم تملأ كل الفضاءات وتحقق ملايين المشاهدات، يدخلون البيوت عنوة، وما باليد حيلة، لا خيار لنا أمامهم سوى أن نلعب اللعبة معهم حسبما يرى صاحب الكتاب، لان قاعدة النجاح، في ظل نظام التافهين، هي أن "تلعب اللعبة"، إذ لم يعد الأمر شأنا إنسانيا، ولا مسألة بشرية، ولا مستقبل كوكب، إنه فقط مجرد "لعبة"، هذه القاعدة غير مكتوبة، لكن الجميع يدركها، ويعمل وفقها.
وقبل ان اختم اشير الى اللافتات التي انتشرت في الآونة الأخيرة في العديد من دول العالم مكتوباً عليها "توقف عن جعل الناس الأغبياء مشهورين". فالدفع بالتافهين إلى الواجهة والمقدمة يعد جريمة في حق البشرية.

اضف تعليقك

Plain text

  • No HTML tags allowed.
  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Lines and paragraphs break automatically.
Image CAPTCHA
أدخل الحروف التي تظهر بالصورة (بدون فراغات)