طلبة نيوز-
الدكتور محمد السنجلاوي
ما زالت أحداث معان الأخيرة تتوالى بوتيرة سريعة، شدت معها أوتار خوف الجميع وقلقهم، مما جعل البعض ينظر إليها بعد كل حدث كان قد أعمل في خاصرتها وخزاً على أنها مدينة (مارقة). مما دعانا ذلك الأمر إلى طرح الأسئلة الآتية: هل تحولت مدينة معان فعلا إلى صداع وطني؟ هل تهدد مدينة معاً حقاً وحدة الدولة الأردنية؟ هل مدينة معان أصبحت بحاجة ماسة إلى قبضة أمنية أم إلى فزعة وطنية؟
في معرض محاولتنا للإجابة عن تلك الأسئلة، لا بد لنا من التأكيد على أن هناك مجموعات من مختلف الأطياف على امتداد الرقعة الجغرافية الأردنية، مازالت تصرّ على شيطنة هذه المدينة، والحكم على سكانها بالجملة على أنهم عناصر غوغائية، ينبغي طردهم خارج أسوار الوطن.
إن حضور مثل تلك الأصوات، ليس بالأمر الغريب أو المستهجن على أصحاب ذلك الإتجاه (الإقصائي – التهميشي)، الذي يدعى أصحابه عند كل تنظير وطني، بأنهم ينطلقون برؤيتهم من عقيدة وطنية بحتة أو خالصة. مما يخولهم في نهاية المطاف إلى لعب دور (أوصياء الوطن)، وحكماء حل المعضلات ومتاريس المحن.
إذا أردنا أن نخالف طريقة النعام في مواجهة المشكلات، يجب أن نعترف بأن الوطن بأكمله يعاني من نوبات صداع حادّة، هذه النوبات يعاني منها أغلب أفراد المجتمع الأردني، الذين وصل بهم الأمر إلى مرحلة الكفر بكآفة "أقراص التهدئة" التي كانت – وما زالت – تصرف للمواطنين، عن طريق الحكومات المتعاقبة على شكل برامج إصلاح (طوباوية)، مقطوعة الصلة بينها وبين الواقع، الذي ما زال طريح فراش الأزمات والتوترات والتجاذبات الرسمية والشعبوية.
لا نقول عن هذه المدينة بأنها (المدينة الفاضلة)، فهي مدينة يوجد فيها بعض الأفراد الذين لديهم سلوكات وخروقات أساءت كثيراً إلى سمعتها، وشوهت إلى حدّ كبير مواقفها الوطنية. ولكننا مهما عبنا على أولئك الأفراد سلوكاتهم المشينة، ومهما علا صوتنا بالإدانة، فإننا لن نرتقي بدرجات الإدانة إلى مصاف شرفاء معان أنفسهم، الذين طالما عابوا واستنكروا تلك الخروقات (الضد – وطنية). حتى وصل الأمر بهم إلى المناداة بضرورة بسط هيبة الدولة، وتشديد القبضة الأمنية على أولئك الخارجين من جلودهم، وعلى أولئك العابرين من بوابتها التاريخية والحضارية وهم يرتدون ثياب اللصوص، وثياب الخارجين على الوطن شاهرين سيوفهم في الأزقة والطرقات بحثاً عن غنيمة من الغنائم.
مقابل هذه الصورة، فقد كان يعترينا الأسف – كل الأسف -، عندما كان يتم إستبدال طريق البحر الميت بالطريق الصحراوي – عند حدوث بعض الأزمات التي كانت تمر بها -، وذلك خشية تعرض المارة إلى عمليات سلب ونهب على أيدي قطاع طرق من معان النخوة والشهامة والمروءة. وموطن الأسف جاء لما كان يرافق ذلك (الإستبدال) من تقولات وتخرصات، أخذت شكل التعميم على ألسنة عدد كبير من الناس، سكبت مدينة معان في قوالب منمطة رشحت بنعوتات أقلها بأنها مدينة متمردة وخارجة على القانون.
ومن هنا فإنه آن الآوان، أن نعترف دون مواربة، بأن معان تحولت إلى بؤرة فشل حكومي صارخ؛ إذ أن سياسة ترحيل الأزمات والمشكلات التي تعاني منها المدينة منذ زمن، لم يتم التعاطي معها بطريقة جدية وعلمية مدروسة، وإنما كانت تتم بطريقة ارتجالية ظرفية راهنة.
إن المفارقة التي ألقت بظلالها على محافظة معان، تمثلت في كونها تعد مستودعاً للموارد الطبيعية الوطنية، المتمثلة بوجود عدد كبير من المعادن أهمها الفوسفات (المورد الطبيعي الأول في الأردن) والحجر الجيري، والرمل الزجاجي، والصلصال، والحجر الرملي، والبازلت، والأحجار شبه الكريمة. إضافة إلى كونها شرياناً حيوياً في قلب الصحراء، ينبض بالمياه والينابيع العذبة مما جعلها بحق (مدينة الماء)، وفي الوقت نفسه نجدها تعاني فقراً مدقعاً بسبب غياب المشاريع الإستثمارية والتنموية فيها، الأمر الذي أسهم في ارتفاع مؤشري "الفقر والبطالة" إلى مستويات بالغة الخطورة.
هذه المفارقة ولدت لدى أهالي المحافظة حنقاً زاد من حدته التجاهل الرسمي لمطالبهم الوطنية المشروعة والمتكررة. إن ذلك التجاهل أوصل أهالي المحافظة إلى وضع يشبه إلى حد كبير وضع بعض القبائل الإفريقية، التي تملك من الكنوز ما تملك ومع ذلك يرفل أفرادها في ثياب المحرومين، الذين يهيمون على وجوههم بحثاً عن أجرٍ لا يكاد يسد رمقاً ولا يكحل حدقاً.
بعد كل ما سقناه من حقائق مرّة، فإنه ينبغي على الحكومة أن تقوم بمراجعة إستراتيجية جادة، لجميع المشاريع الإقتصادية والتنموية، التي استُحدثت باسم معالجة جيوب الفقر ومحاربة البطالة على مستوى المملكة بعامة وعلى مستوى محافظة معان بخاصة وفق مبادئ الدستور الأردني، الذي كفل لجميع الأردنيين – دون إستثناء – حق العمل وحق العيش بحرية وكرامة.
كما ينبغي على الحكومة – خدمةً لتلك المراجعة – إستحداث قانون لا يجرّم فقط فاسدي الوطن ولصوصه، وإنما يتضمن كذلك الحكم عليهم بالمشاريع الإستثمارية بدلاً من المؤبد أو الأشغال الشاقة؛ ليصار بعد ذلك إلى إطلاق سراحهم (لصوصاً وطنيين)، نالوا حريتهم بالتوبة والإستغفار والإستثمار..!!
وبالمقابل فإن على عقلاء معان – وما أكثرهم – وشيوخها ووجهائها – وما أنبلهم -، محاربة كآفة أشكال الإعتداء على الممتلكات العامة، ووقف ردات الفعل الهستيرية التي ندّت عن بعض شباب معان تجاه تلك الممتلكات، وتجاه أبناء الوطن (مرتبات الدرك) عن طريق ايصال رسالة إلى أولئك الأفراد على أن كل من أحرق بنكاً أو محكمة أو هدم مرفقاً حكومياً.. يكون كمن أحرق بيته أو هدم سقف بيته فوق رؤوس أولاده وبناته. وفي الوقت نفسه يتوجهون برسالة أخرى إلى جميع الأطراف تتضمن الدعوة إلى ضرورة عقد حوار أخوي ووطني عقلاني؛ للخروج من الأزمة الراهنة التي ينبغي أن لا يكون فيها حَكماً سوى القانون، ولا صوت فيها سوى صوت العقل والضمير الوطني الحر بعيداً عن لغة التجييش، وبعيداً عن النفخ في نار الفتنة.
ختاماً نقول: إن مدينة معان – رغم كل ما حدث – ستظل رمزاً من رموز الوحدة الوطنية، وستظل تتمتع بمكانة وخصوصية واضحة في الذاكرة الوطنية الأردنية والعربية والإسلامية. وبالتالي شذّ من صوّر معان على أنها ذات نزعة انفصالية تهدد وحدة الدولة الأردنية، لأن الأمر لن يتعدى – على قسوته – وجود مشكلات وطنية تبحث عن حل في هذه المدينة (تائهة الأوجاع)، التي اقتبست من قيم الوفاء والبطولة والكرم، قبساً أنست به الصحراء على مرّ العصور.
اضف تعليقك