TLB News (طلبة نيوز للإعلام الحر)
ثقافة الاستقالة
18/09/2020 - 2:15pm

ثقافة الاستقالة هي من مظاهر المجتمع المدني المتحضر، فهي ممارسة سلوكية إيجابية تهدف الى تغليب المصلحة العامة على المصلحة الشخصية لتصويب وضع قائم في مؤسسة او هيئة او جامعة او غيرها بسبب فشل المسؤول الاول فيها و طاقمه الاداري في تحقيق الاهداف الاستراتيجية لتلك المؤسسة أو الجامعة، أو لعدم قدرته على قيادتها و تطوير برامجها و تنمية مواردها المالية.

يستقيل المسؤول أو يطلب منه الاستقالة لأسباب كثيرة، منها:

اولا، قد يطلب من المسؤول الاول في مؤسسة ما أو شركة أو جامعة أو غير ذلك تقديم استقالته، أو الاستغناء عن خدماته، بسبب أخطاء ارتكبها، أو كان سببا في وقوعها لعدم قدرته على إدارة مؤسسته أو لأخطاء إدارية تؤثر على سير العمل و فشل في تحقيق الأهداف الاستراتيجية لتلك المؤسسة أو الجامعة، و هنا يجب ان يخضع ذلك المسؤول للمساءلة و التحقيق معه خاصة اذا كان هناك اختلاسات مالية او فساد إداري .

ثانيا، احيانا تقع المؤسسة في مشاكل خارج إرادة المسؤول الاول مباشرة، أو بسبب سوء اختياره لفريقه الاداري الذي يعمل معه و من خلاله، و لكن يجب ان تلقى عليه المسوولية أدبيًا و أخلاقيًا ، و أحيانًا قانونيًا اذا لم يعمل على توفير الشروط اللازمة لتحقيق اهداف المؤسسة و حماية مصالح موظفيها و منتسبيها. و هنا يجب مساءلته عن أي خطاء أو فشل يضر بالمصلحة العامة لأن واجبه المتابعة الحثيثة لكل صغيرة و كبيرة ضمن مظلة صلاحياته الادارية.

ثالثا، قد تقع اخطاء كبرى في إدارة المؤسسة أو الجامعة أو الوزارة بسبب ضعف المسؤول و استغلاله من قبل فئة متنفذة من داخل مؤسسته أو من خارجها و هيمنتها على اتخاذ القرار فيها مما ينعكس سلبًا على منتسبي تلك المؤسسة أو الهيئة و على المجتمع بشكل عام، قد لا يكون للمسؤول الأول مسؤلية مباشرة، و لكنه مسؤولًا أدبيًا، و يجب أن يخضع للمساءلة و التحقيق معه من قبل الجهات الرسمية للتاكد من سلامة الإجراءات المتخذة و مدى متابعته لظروف و شروط العمل التي تقع في دائرة مسؤلياته.

رابعا، قد تفشل المؤسسة أو الهيئة و تتراجع نتيجةً لظروف عامة خارج سيطرة المسؤول الاول، و لكنه وقع أسيرًا لبريق المنصب، و غفل عن المتابعة لمنهجية العمل و تراخى في اداء واجباته، ولكنه سمح لغيره من موظفيه بإدارة المشهد نيابة عنه بسبب ضعفه و خوفه من إتخاذ االقرار.

خامسًا، تحدث احيانا كوارث طبيعية او كوارث من صنع الانسان يكون لها اثرا مباشرا او غير مباشر على آداء المؤسسة و على منتسبيها و من له علاقة بها بشكل او بآخر، و احتراما لما قد يحصل لمنتسبي المؤسسة من اذى و لمشاعر ذويهم يجب ان يقدم المسؤول الاول استقالته و يعتبر نفسه مسؤلا ادبيا يتطلب منه تقديم استقالته.

ثقافة الاستقالة متجذرة في المجتمعات المتحضرة التي تمارس الديمقراطية و تداول السلطة و تحترم حقوق الانسان حيث بقوم المسؤولون في تلك الدول بتقديم استقالاتهم و التنحي عن مناصبهم طوعا و احينا استجابة لضغوط شعبية في سبيل المصلحة العامة، ولا يترددون بتقديم اعتذارهم لشعوبهم بسبب عدم تمكنهم من تحقيق البرامج و الاهداف الاستراتيجية لدولهم أو لوزارات و مؤسسات تلك الدول،.

لقد شاهدنا في الاسابيع الماضية رئيس وزراء اليابان يقدم استقالته معللا ذلك بعدم قدرته الصحية على الاستمرار في اداء واجباته تجاه و طنه. و قبل ذلك بسنوات رأينا رئيس وزراء بريطانيا الاسبق يقدم استقالته على خلفية الاستفتاء على البركست ، و بالتالي اعطى الفرصة لغيره لادارة المشهد بما يحقق المصلحة العامة لبلاده . الأمثلة على ثقافة الاستقالة كثيرة و يصعب حصرها، و لكنها جميعًا تحدث في الدول الديمقراطية التي ينظر فيها للمنصب العام على انه تكليف و مسوولية يخضع صاحبها للمحاسبة .

اما في بلادنا فان ثقافة الاستقالة غير موجودة اطلاقا، بل ان التشبث بالمنصب هو الثقافة السائدة ، فالحفاظ على المنصب و ما يجر معه من مكاسب مادية و معنوية يبقى على رأس اولويات المسؤول ، و كأن لسان حاله "انا و من بعدي الطوفان".

لقد مر بالاردن الحبيب كوارث طبيعية ذهب ضحيتها الابرياء من ابناء الوطن، فلم نرى مسؤولًا قدم استقالته طوعا او اعترف بمسؤليته الادبية و الاخلاقية، بل انه يتمسك بمنصبة حتى النهاية، و اذا ما طلب منه الاستقالة- لحفظ ماء الوجه- فربما تتم مكافآته بمنصب آخر، مما يعزز عند الناس، خاصة الطامحين في السلطة، ثقافة التمسك بالمنصب و التشبث به، و يجعل التهافت على المناصب العليا ديدن المسؤولين و حلمهم الذي يسعون الى تحقيقه لما فيه من مكاسب مادية و معنوية مدى الحياة.

كنا نتوقع من مؤسساتنا الاكاديمية و جامعاتنا ان تكون المبادرة في خلق ثقافة الاستقالة و ان تقود قطار التغيير المجتمعي، و بذلك تصبح النموذج الذي تتبعه مؤسسات المجتمع المدني و دوائر الدولة ووزارتها، غير ان النتيجة عكس ذلك تماما، فعندما يصعد المسؤول الأول سدة الادارة في الجامعة يصبح همه الأول أو شغله الشاغل ان يبقى اطول مدة ممكنة في منصبه، و ان يعمل اثناء فترة ادارته على تامين منصب آخر اذا ما تم الطلب منه الاستقالة، لا بل انه ينبري بالدفاع- و بشراسة- عن فشلة في تحقيق الخطط الاستراتيجية لجامعته، و اذا ما تم اعفاءه من منصبه، فإنه لا يعترف بفشله، بل انه يلوم غيره و يتهم هذا او ذاك متبنيا نظرية المؤامرة ، و يشيع بين الناس انه ضحية تآمر أو غير ذلك من مبررات غير واقعية.

احيانا يتم إرضاء هذا المسؤول الذي يتم إعفاءه من منصبه بان يعين في منصب آخر، مما يولد عند الناس قناعة بإنه ظلم ويجعلهم يشككون بمصداقية التقييم و آليات تطبيقه.

تقييم الاداء الوظيفي للمسؤولين في أي مؤسسة هي سنة حميدة و ممارسة ديمقراطية مطلوبة لضمان الجودة و تحقيق اهداف و إستراتيجيات تلك المؤسسة او الهيئة شريطة ان تكون الإجراءات المتبعة سليمة و شفافة و بعيدة عن اغتيال الشخصية.

من هذا المنطلق، فإننا نتوقع من المسؤول الذي يكون تقييم ادائه دون المستوى المطلوب المبادرة طوعا بتقديم استقالته و إتاحة الفرصة لغيره من زملاءه الاكفياء لتولي القيادة في هذه المرحلة الصعبة التي يمر بها الوطن و تصويب الخلل الموجود.

لماذا لم نرى مسؤولًا في مؤسسات الدولة و قطاع التعليم العالي يقدم استقالته طوعا لأي سبب من الأسباب التي سقت سابقًا؟

المشكلة تكمن في عدم وجود ثقافة الاستقالة في مجتمعنا.

علما ان تقديم الاستقالة و الاعتراف بالفشل ليس عيبا، لا بل يجب ان نرفع القبعة اجلالا و احتراما لهذا المسؤول او ذاك الذي يقدم المصلحة العامة على المصلحة الشخصية و لا يتهرب من مسؤوليته الادبية و الأخلاقية، فممارسة ثقافة الاستقالة هي من مظاهر رقي المجتمع و تغليب المصلحة العامة على المصلحة الشخصية.

أ. د. محمود الشتيوي الشرعة

اضف تعليقك

Plain text

  • No HTML tags allowed.
  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Lines and paragraphs break automatically.
Image CAPTCHA
أدخل الحروف التي تظهر بالصورة (بدون فراغات)