طلبة نيوز- د. صلاح جرّار

أوسع أبواب الخروج من التحضر أن تضع الناس أمام خيارين لا ثالث لهما كما فعل جورج بوش بعد تفجيرات الحادي عشر من أيلول في الولايات المتحدة الأميركية عندما خيّر دول العالم إمّا أن تكون معه في محاربة ما سمّاه بالإرهاب وإمّا أن تكون ضده، فهذا النوع من تخيير الناس هو لونٌ من ألوان الاستعباد الذي هو أبعد ما يكون عن السلوك الحضاري، إذ الأصل في الأمور أنني إن لم أكن معك فليس بالضرورة أن أكون ضدك أو أنني مع خصمك.
وتنطبق هذه القاعدة على كثير من جوانب الحياة والعلاقات الإنسانية، فإذا كنت لا تحب أحداً فلا يعني ذلك بالضرورة أنك تبغضه أو أنك منحازٌ إلى عدوه، وإذا قلت عن فتاة إنها ليست جميلة فلا يعني ذلك أنّها قبيحة، وإن وصفت أحداً بأنه ليس كريماً فليس بالضرورة أن يكون بخيلاً، وإن وصفت أحدهم بأنه ليس قصيراً فليس بالضرورة أن يكون طويلاً، إذ إن بين الطول والقصر حالةً وسطى، وبين البخل والكرم، وبين الجمال والقبح، وبين كل نقيضين مرحلةً وسطى يجب عدم إنكارها عندما نصدر أحكامنا على ما نسمع أو نقرأ.
إن نفي أي صفة عن أي شخص لا تعني إثبات نقيضها، فالإنسان الذي ليس سميناً لا نستطيع أن نحكم عليه أنه نحيف أو هزيل، لأنه ربّما يكون دون السمنة وفوق النحافة أو في مرحلة وسطى بينهما. وكذلك إن وصفنا بيتاً بأنه ليس كبيراً فإننا لا نستطيع أن نحكم عليه بأنه صغير، فربما يكون في مرحلة بين الكبر والصغر، وكذا يقال عن السائق الذي لا يسرع في قيادته فإنه ليس بالضرورة أن يكون بطيئاً، بل ربّما يقود عربته بين السرعة والإبطاء.
ولذلك فإن علينا ألا نسارع إلى تصنيف الناس بين محب ومبغض فقط، أو بين مؤيدٍ ومعارض فقط، أو بين وسيم وذميم فقط، أو بين صديق وعدو فقط، فهنالك صنف ثالث قد يشكل الأغلبية لا بدّ من الاعتراف به، وهنالك طريق ثالثة يسلكها كثير من الناس لا بدّ من الالتفات إليها باعتبارها واقعاً وحقّاً من حقوق الناس الذين يحبون شيئاً ولا يكرهون نقيضه ويكرهون شيئاً ولا يحبون نقيضه.
ولا بدّ لأهل اللغة والأدب والفكر والإعلام والتربية والسياسة والمنطق من الاعتراف بأن (لا) النافية وظيفتها نفيّ شيء محدد وليس من شأنها أو وظائفها إثبات نقيض ذلك الشيء الذي قامت بنفيه، وبذلك نتلافى كثيراً من الاختلالات الفكرية والأوهام الفاسدة.