TLB News (طلبة نيوز للإعلام الحر)
مقامة الحسبة
03/02/2015 - 3:45pm

 
طلبة نيوز

بقلم الأستاذ الدكتور: سلامه طناش

قال لي صاحبي: كان ياما كان في قريب الازمان. كانت قرية صغيرة في طرف المكان،  تدعى قرية النعجة. ويحكى أن أهالي قرية النعجه كانوا طيبين، يربون الأغنام، والماعز، ولديهم أبقار وخرفان. كما كانو يربو الأكباش والصيصان. ويزرعون القمح والشعير والعدس، والكرسنة. مزروعات شتوية يعتبرونها مرتكز حياتهم للعيش بأمان. إذ كانو ومع أواخر شهر أيلول ينتظرون هطول أول زخات المطر الممزوج بغبار الخريف. وهم حينها يتحاشون الخروج للسهول والشوارع، خشية التلوث من الهواء الحفيف، والذي من جرائه قد يأكلو السفيف ، وقد يقعدهم عن حراثة أراضيهم ويالطيف. وكانو مع ذلك يعدون القمح والشعير والعدس، لموسم جديد. ويسنون المحاريث بالحديد. ويستخدمون الدواب في الحراثة، كالبغال، والكدش، والحمير، وبعد أول مطرة شتوية يسمع لها خرير. إذ كان معيارهم للبدء بموسم الزراعة هو هطول الأمطار بغزارة ليوم أو اثنين وربما لأسبوع، وليخرج من الأرض كل جربوع. قرويون بسطاء يعرفون زراعة العفير وزراعة ري السكة. بساطة لا يتعدى الخبث فيها أكثر من سرقة ماعز من أطراف أقرب قرية. إذ من العيب والعار عندهم أن يسرق أهلها بعضهم بعضا.

وتمر الأيام ويزرع أهل قرية النعجة موسمهم الزراعي، وهم متوكلون على الله. يسهرون كل عند مختار، ويشربون الشاي والقهوة، ويدخنون الهيشي، والمنظوري. وكانو يتفقدون بعضهم بعضا، ويتسلون بلعب المنقلة، ويستمعون لقصص عنترة. ويدعون الله أن يطعمهم، ليأكلو ويطعمو كل حي في القرية، حتى الطيور المهاجرة كان لها نصيب. إذ كانوا في الصيف وخلال موسم الحصاد، وبعده، ينثرون الحبوب على أطراف بركة الخضر الأخضر للبركة، ولتقتات منها كافة أنواع الطيور،  كطير أبو سعد، والدرج والسنونو، والقبَّرة. وكان مخاتير القرية يجتمعون باستمرار عند الحنت الأسود المغروس بجانب مقبرة القرية ليتدارسو شؤون أهلها، وعادة يكون الاجتماع قبيل المساء، وعند انكسار خط الشمس العمودي، وليستظلوا بظله. يتباحثون في كل شي يهم أهل قرية النعجة. سكانها معروفون لبعضهم البعض، صغاراً وكباراً، يعودون مرضاهم، ويزورونهم، وتحزن القرية كلها لميت، وتفرح القرية كلها لمولود أو عريس. ليس بينهم غريب غير معروف له أصل أو مرجعية. مكتفون ذاتيا، يعيشون بما كتبه الله لهم من رزق. قانعون راضون، الكل سواسية، يتقاسمون رغيف الخبز سنين القحط، ويأكلون الكراديش مبلولة بالماء غير جاحدين، ولا ناكرين فضل الله عليهم.

وشاءت الأقدار يا صاحبي أن ينعم الله على قرية النعجة بخمس سنين من الخير المستدام. إذ امتلأت الكواير بالحبوب، والحواصل والخانات ما عادت تتسع للتبن، وكثر الرعي، وامتد. حتى أن معظم أهل القرية بدأو يفكرون في بيع ما لديهم من حبوب مُخزّنة. وأن يستبدلو دوابهم بعربات، وآليات عرضها عليهم أحد الحالمين ممن ابتعد عنهم، وغاب لسنوات طويلة. إذ كان يسافر ويسافر للقرى المجاورة، والمدن البعيدة، والعواصم الجميلة قبل رجوعه إلى قريتة النعجة. وهو الذي طرح عليهم أن يغير اسم القرية إلى البقرة. كيف لا والبقرة أكبر، وأكثر لحما، وحليبا، وصوتها أقوي، وأكثر امتدادا. وأنّ  موارد القرية من الحبوب، قد كثرت، وأصبحت أكثر تنوعا. إذ أدخل عليها هذا الحالم الناعم الأهلس الأملس المستعطي أنواعا جديدة كالحمص والفول، والسمسم، والبصل، لا بل والفجل كذلك.

وكان له ما كان يا صديقي. إذ غيرت القرية اسمها بعد موافقة المخاتير بالأغلبية. مشهد مثير: إذ أخرج كل واحد منهم ختمه من جيب سرواله، ونفخ على ختمه نفختين وطجه في اسفل صك الاعلان على تغيير الاسم والعنوان. وتم كل ذلك في حركات دراماتيكية، مثيرة، لا تخلو من التهويل والتصفير والتسحيج. ثم بعد ذلك وقف مختار المخاتير وهو الأكبر سنا، وقرأ له أبن أخيه البيان، وعلى مسمع الشهود والعيان، ودعاهم إلى العشاء قبل غروب الشمس بعنفوان. خمسة أكباش اهتزت لها الشوارب والاجفان، ولتنام بعدها القرية ليلتين متتاليتين، بدون هز او اهازيج  من شدة التعب والجهد المبذول لتحويل اسم القرية من النعجة إلى البقرة. فكيف كان الحال يا صاحبي لو أنه تم تحويل الاسم إلى الناقة، بصنمين. فوالله لنامت القرية شهرا، وبذا وفرت الكثير من الهرج، والهرش، والنميمة دهرا، ولن يبيت لها بعد ذلك  أمرا، ولا والله علا لها قٍدرا.

قال صاحبي، سأختصر عليك الحكاية. قلت له: تفضل. قال: الأمرُّ والأدهى أن مجموعة المخاتير وبعدما شاهدوا أنّ خيرات قرية البقرة، أزدادت، والزراعة فيها تماددت، قرروا أن يفتحوا لها حسبة صغيرة لبيع المنتوجات الأهلية بكل أنواعها. إذ رأى المخاتير بناءا على استشارة الحليم الخبيث الأملس بأن كثرة الأصناف المنتجة تحتاج إلى تصنيف وتوثيق، وتحديد للاسعار خشية التضارب والانهيار، وحفاضا على الهيبة وصونا للابتكار. فكان أن وقع حسن الاختيار على بيدر مرتفع يستطيع كل مزارع للارض مالك، ان يصيح بأعلى صوته ليسمعه كل سالك. وتنادى يا صاحبي أهل قرية البقرة، ووضع كل واحد له بسطه. وكوّم ما لديه ما يمكن بيعه، حتى أنني رأيت عند بعضهم الفحمة. أسمع من ينادي بأعلى صوته، يبيع بأعلى سعره، إذ كان ذلك دلاله الثقة بحسن البضاعة. وذاك ذوالصوت الضعيف ليس لديه ما يخيف. وذاك الذي يلوح بسيفة يبيع بثقة، وتشتري الناس  منه خشية وبالسعر الذي يريد، فلا بضاعة الا بضاعته في الحسبة. طاولات كثيرة منتشرة، بسطات متنوعة فيها أصناف واصناف من البضائع الشتوية، والصيفية، ولكل المواسم موجودة. إذ تطورت الحسبة، وتعددت أنواع المعروضات يا صاحبي، وكثرت المستوردات واللهجات، والأهازيج، وأنواع المسكوكات، وأصبح أهل قرية البقرة يبيعون الموروثات، من طاسة الروعة، إلى المهباش. فلم يعد أحد يستحي بالغشاش، وباتت لغة أهل البقرة غير تلك. وبعد بضع سنين ياصاحبي لم يعد أهل قرية البقرة يزرعون القمح والعدس والكرسنه. إذ ماتت البغال، والكدش، والحمير. وبقيت الحسبة تولول من الصباح للمساء.

وندم المخاتير أشد الندم. وأصبحت وجوههم مكفهرة، عيونهم غائرة، وقلوبهم عمياء. إذ تراهم يفرفكون ايديهم صيف شتاء، ويتوحوحون على تغيير اسم قريتهم، وهم وإلى الآن يبحثون ويتداولون ويتشاورون، ويسألون عن كيفية الرجوع إلى تسمية قريتهم بالنعجة. وما الحكمة ومن المسؤول عن تسميتها بالبقرة، إذ غادر الحليم المتنمِّق الخبيث الأهلس الأملس، وبعد أن فطست أول بغلة؟!.

التعليقات

د.نذير العبادي (.) الاربعاء, 02/04/2015 - 04:50

استاذنا انا من المتابعين لكم ولكتاباتكم التي تنم عن حبكم لكل الاردن.وما عرفناك دوما الا صاحب كلمة حق ومنهجك عادلا ومنصفا منذ ان كنا طلابك وها نحن نفخر بكتاباتكم ما اروعها من مقامه تتضمن بلاغة عقلك وموسوعة فكرك وروعة الروعة

اضف تعليقك

Plain text

  • No HTML tags allowed.
  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Lines and paragraphs break automatically.
Image CAPTCHA
أدخل الحروف التي تظهر بالصورة (بدون فراغات)